بعد كتابتي لمقاليّ السابق "
منْ الذي يقود العراق" في صحيفة "عربي21" الغرّاء، وصلتني بعض الردود المؤكّدة لغيّاب الإرادة الوطنيّة الحقيقيّة القائدة للوطن والنّاس نحو الأمن وبناء الدولة والسلام.
ومن التعليقات التي وقفت أمامها طويلاً، رسالة أحد وجهاء
الموصل، (آثرت ألا أذكر اسمه حفاظاً عليه من قوى الشر والإرهاب)، الذي أكّد أنّ "الموصل نموذج للفوضى السياسيّة: تحكمها العصابات، وتعاني من إهمال متعمّد لكلّ المرافق والخدمات، والابتزاز للمواطنين والتجار والأطباء وأصحاب المحال، واختطاف وطلب للفدية، وغيرها الكثير. وبعد تفجير مطعم "أبو ليلى"، هاجرت من الموصل بهدوء أكثر من 30 ألف عائلة إلى أربيل وأطرافها، ومنهم من وصل إلى تركيا، ولم يسلّط الضوء على ذلك. إنّ الموصل مدينة منكوبة بدمار شبه شامل"!
ومع هذه الرسالة الجامعة لأحوال الموصل وأهلها، فإنّ كلامنا يتزامن
مع مرور عام كامل على انتهاء المعارك في المدينة، ووعود الحكومة بإعادة إعمارها، وترتيب أحوالها، وهذا ما لم يحدث رغم هذه المدّة الكافية!
إعمار الموصل كذبة سياسيّة لا نظير لها، وقد صرّح أحد نوّاب المدينة أنّ 40 مليار دينار عراقيّ كانت مرصودة لإعمار المدينة قد اختفت!
فأين ذهبت، ومنْ سرقها؟
وليت المأساة توقفت عند هذا الحدّ، بل الموصل اليوم مدينة تحكمها العصابات. وقد وصلتني بعض الرسائل التي تشير إلى أنّ العصابات الإرهابية العلنيّة والسريّة تأخذ الأتاوات من الصيدليات والشركات الخاصّة، وكأنّهم شركاؤهم في أعمالهم!
اليوم هنالك قوى من الحشد الشعبيّ تقوم بجباية الرسوم والضرائب في الحدّ الفاصل بين قضاء تلكيف في محافظة دهوك والموصل، وسبّبت ارتفاعاً كبيراً بأسعار الموادّ الغذائيّة والموادّ الأخرى. والغاية ليس خدمة أهالي الموصل، وإنّما النهب الرسميّ بفرض "أتاوات" على التجار!
وفي بداية الشهر الحالي، أقرّ رئيس حكومة بغداد عادل عبد المهدي بأنّ "أكثر التفجيرات في الموصل هي اقتصاديّة وسياسيّة"، موجهاً بإغلاق "المكاتب الاقتصاديّة في المدينة لوجود رغبة شديدة من الجميع بتجاوز هذه المسألة حفاظاً على الأمن العامّ"!
وهذا ما لم يحدث حتى الساعة! فهل الحاكم في الموصل هي الحكومة المحليّة الممثّلة لحكومة بغداد، أم الحشد الشعبيّ؟
تقصير الحكومة المحليّة في الموصل بدا واضحاً أيضاً مع
السيول التي ضربت
معسكرات النازحين للمرة الثانية، حيث إنّها لم توفر أماكن أكثر أماناً من تلك التي تضررت قبل أسبوعين. وهذا يؤكد أنّ الحكومتين المركزيّة والمحليّة لم تعملا على توفير أماكن أكثر أماناً للنازحين، وكأنّهما غير مسؤولتين!
ومن أبشع صور الإهمال في الموصل، بقاء جثث ضحايا العمليات العسكريّة تحت الأنقاض، رغم مرور أكثر من عام على انتهاء المعارك. وقد أكدت فرق الدفاع المدنيّ أنّها انتشلت أكثر من 2665 جثة معلومة الهويّة منذ انطلاق معارك الموصل ولغاية 6 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، في حين بلغ عدد الجثث المجهولة الهويّة 1992 جثة"!
ومعلومة هي التحديات والآثار الصحّيّة والنفسيّة لهذه الكارثة الإنسانيةّ!
وبصراحة مؤلمة نتساءل: كيف يمكن للمهجّرين العودة إلى مدنهم، وغالبيّتهم فقدوا منازلهم، بشكل كامل، أو جزئيّ، والخدمات الأساسيّة من ماء وكهرباء ومؤسسات صحّيّة وتعليميّة وخدميّة غير مؤهلة بالقدر الكافي لاستقبالهم، مع وصول معدلات الفقر في الموصل وغيرها من مدن المعارك في شمال البلاد وغربها إلى أكثر من 41 في المئة، وفقاً لوزارة التخطيط العراقيّة؟
يجب على المجتمع الدوليّ أن ينظر للموصل وشقيقاتها من المدن المدمّرة بأنّها غير مؤهّلة للعيش نتيجة الدمار والرعب والاستخفاف بالقيم الإنسانيّة، والتنفير المتعمّد والاستيلاء على المساجد والأملاك العائدة للأوقاف والمواطنين المهجّرين، وهذه كلّها سياسيات تدمّر الإنسان والسلم المجتمعيّ!
الموصل لن تتعافى طالما لا تمتلك حكومة محليّة فاعلة وقويّة وشجاعة، وطالما بقيت زمام الأمور بيد القوى الشريرة، وهذه جميعها عوامل طاردة لعودة الاستقرار إلى المدينة!
إنّ تبسيط مشاكل الموصل والمدن المدمّرة لن يقود إلى نتيجة إيجابيّة نافعة للوطن والمواطن، وهذا الإهمال لا يختلف أثره عن شرور الإرهاب، فكلاهما يدمّر الإنسان والبنيان. وعليه، ينبغي أن تكون هنالك حملة وطنيّة لاستتباب الأمن، والنهوض بواقع هذه المدن وإعمارها قبل ضياع الخيط والعصفور!