هل تحركات الكونغرس في ما يتعلق بمقتل
خاشقجي هي فقط لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العالمي والداخلي الأمريكي، أم ولاء مبطن لإسرائيل ومشروعها في المنطقة؟
فمنذ مقتل خاشقجي والرأي العام الأمريكي غاضب، لكنه لا يحرك ساكنا، قانونيا أو معنويا، وكذلك هو حال الكونغرس!
فكل ما قام به أعضاء الكونغرس الأمريكي منذ مقتل جمال خاشقجي في قنصلية السعودية باسطنبول حتى اللحظة؛ هو الاجتماع والتشاور بعض بين بعض، ومن ثم الخروج والإدلاء بالتصريحات المستهلكة للإعلام، والتعبير عن غضبهم وسخطهم بعصبية وخيبة أمل. وهكذا هو الحال منذ شهرين، حيث يقف الكونغرس عند هذا الحد ولا يتقدم.
إذن ما الفائدة منه؟ فقد أصبحت الصورة بارزة أكثر، خصوصا بعد سماع إفادة رئيسة المخابرات الأمريكية جينا هاسبل في جلسة سرية لمجلس الشيوخ، ثم تبعها منذ وقت قريب إفادة لمدير المخابرات التركية، لتعود هاسبل مرة أخرى البارحة وتدلي بشهادتها أمام مجلس النواب هذه المرة. ثم خرج عليا النواب بتنديدات وبيان لقرار بمشروع يدين (لا أكثر)
ابن سلمان، ووقف للدعم الأمريكي للسعودية في حربها باليمن!
وبالرغم من تأكيد هاسبل على تورط ابن سلمان مباشرة، بإصدار الأوامر لقتل خاشقجي، وهو ما أكده الجانب التركي، فهذا كله لم يكن كافيا ليحرك ساكنا لدى
ترامب. بل ما زال ترامب يدعم ابن سلمان، وبلا شروط. فما سر هذا الدعم غير المشروط؟ ومن له مصلحة فيه سوى حلفاء أمريكا في المنطقة، كإسرائيل مثلا؟!
أضف إلى ذلك، فقد وصل الكونغرس إلى الحد الأقصى من جهوده، وهو إصدار بيان تحت "مشروع قرار" فقط، يدين به المجموعة المقربة من ولي العهد، ومنها مساعداه سعود القحطاني وتركي آل الشيخ، التي اعتبرها بأنها من ارتكب الجريمة، وقد أعلنت عنها مسبقا تركيا، وأدرجت أسماء المجموعة ضمن قائمة متهمين تطالب السعودية بتسليمهم إليها، لتعود هاسبل مرة أخرى وتدلي بإفادتها أمام مجلس النواب مرة ثانية، ثم صوت النوب بأغلبية أيضا على "مشروع قرار" يدين الذي أمر بقتل خاشقجي، وهو ولي العهد محمد بن سلمان، آملين أن يصادق الرئيس ترامب عليه ليصبح قانونا.
غير أن مشروع القرار هذا غير ملزم للرئيس قانونيا! بل هو رسالة واضحة وملامة له لا أكثر! فضلا عن خلوه من أية قيمة فعلية قانونية على الأرض، ما لم يصبح قانونا مشروع يقره مجلس الشيوخ بثلثي أعضائه ومجلس النواب بالأغلبية، وهذا لن يحصل الآن إطلاقا!
وحتى بعد تمكن الديمقراطيين في العام المقبل (كانون الثاني/ يناير 2019) من السيطرة على مجلس النواب، فستبقى الأغلبية الجمهورية مسيطرة على مجلس الشيوخ، ولن تدعم التصويت لمشروع يهدد ربما بكشف فضائح تورط فساد مالي للمشرعين أنفسهم مع السعودية، كما أشارت إلى ذلك بعض محطات التلفزة، وبعض وسائل الإعلام التي نشرت مقالات في هذا الصدد. وبذلك لن تستطيع واشنطن لا معاقبة المتهم والمجرم الحقيقي الذي أمر باغتيال خاشقجي (ابن سلمان)، ولا إيقاف الدعم الأمريكي للحرب في اليمن؛ لأنها تدر على الأمريكيين أموالا، حسب ما يقول ترامب، بالإضافة إلى خوف واشنطن من إدخال الروس إلى السعودية، كما هدد ابن سلمان في بداية الأزمة عبر مقال تركي الدخيل، مدير قناة العربية لذا، لا نتوقع أن تبقى القضية معلقة وتتحول إلى ورقة ضغط سياسية أمريكية في المستقبل.
أضف إلى ذلك، أن السيناتور الجمهوري البارز ليندسي جراهام، قال الأسبوع الماضي في لقاء له على شبكة فوكس نيوز، إنه ضد مشروع الديمقراطيين المتوقع لمحاسبة ترامب وفتح ملف التهرب الضريبي ضده؛ لأنه غير قانوني، والرئيس طبقا للدستور الأمريكي غير ملزم بتقديم كشف عن ضرائبه. هذا وإضافة إلى تحقيقات مولر، وانتهاك ترامب لقوانين تمويل حملة الانتخابات، حيث رد السيناتور جراهام بأن هناك عدة شخصيات سياسية بارزة قامت بهذه الانتهاكات خلال الحملات الانتخابية ولم تُحاسب، ودافع عن ترامب وسياساته الاقتصادية، بل قال إنه سيدعمه في الانتخابات الرئاسية المقبلة 2020، مما يدل على أن جراهام ما زال يدعم جوهريا وعلنا مشروع بقاء ترامب في السلطة، وضد محاسبته القانونية، ومع دعمه في السلطة، مقارنة طبعا بموقفه من قضية خاشقجي، حيث يؤكد أنه يريد محاسبة ابن سلمان، الذي يتستر عليه رئيسه ترامب!
فما هو اللغز وراء هذا الدعم، وتصميم جراهام على دعم ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ تفسير هذا اللغز يكمن في أن الضغط
الإسرائيلي على أعضاء في الكونجرس تقليديا ما زال مستمرا، سواء عبر المشرعين أو من خلال كوشنر الذي يساند ابن سلمان منذ بداية الأزمة حتى الساعة!
وفي هذا السياق، ربما نستطيع فك لغز ولاء الكونغرس لإسرائيل وسياساتها ودعمها على حساب القيم الأمريكية والدستور، الذي استُخدم من قبل المشرعين كشماعة للتنديد والغضب الشفهي، لا التحرك القانوني بموجبها!
وموضوع ذو حساسية كهذا؛ لا نناقشه في الإعلام الأمريكي علنا، فهو يعكس مدى تجذر الولاء التاريخي الأمريكي لإسرائيل من قبل المشرعين والحكومة والرئيس، فما هو يعتقدونه سرا أصبح اليوم واضحا!
فقد انتهت المسرحية الهزلية التي يقوم بها الكونغرس نيابة عن إسرائيل؛ ويقوم بتمثيلها المشرعون نيابة عن ترامب لحماية مصالح إسرائيل في المنطقة ولتحقيق صفقة القرن!
والسبب الآخر ربما أراد بعض المشرعين حفظ ماء وجوههم، خصوصا الذين سوف يغادرون مناصبهم خلال أسابيع قليلة، فقاموا بالتنديد الشفهي ليثبتوا قيمهم أمام الشعب والعالم لا أكثر! وهناك سبب آخر جوهري أشرت إليه مسبقا، ألا وهو تورط بعض أعضاء الكونغرس بالفساد المالي، وحصولهم على رشوة من شركات الضغط الخاصة التي تديرها السعودية في أمريكا، حيث تشتري السعودية النفوذ السياسي عبر دفع مبالغ خيالية من الأموال لتحسين صورتها في أمريكا، ولتخليص أمورها العسكرية والسياسية.
والدليل على ذلك، استمرار تستر ترامب على ابن سلمان، وتواصل صهره كوشنر مع ولي العهد السعودي لإتمام صفقة القرن ومشاريع واستثمارات وعدهم بها ابن سلمان، لدعم شرعيته ووجوده. فقد أصبح ابن سلمان حاجة ملحة لتحقيق مخطط الخليج الأوسط الجديد، بدخول إسرائيل وصب الغضب ضد إيران والسلطة الفلسطينية التي يريدون تصفيتها، وربما حرب مرتقبة ضد إيران لتأكيد أن هذا التحالف مبرر قيامه؛ لأنه يمهد لمواجهة التهديد الإيراني للسعودية وإسرائيل!
الكونغرس ولاؤه إسرائيلي لا !
لقد ذكرت منذ شهر في إحدى مقالاتي أن الولايات المتحدة تعيش أزمة دستورية، وحين صدر البيان من 45 شخصية مشرعة الأسبوع الماضي، أدركت أنه ربما أخيرا هناك أحد مستيقظ على دستورية الدستور! لكن هل سيمضون بإقامة الدستورية، أم إن المصلحة العليا الإسرائيلية ستطغى على ذلك أيضا؟
أصبحت صورة أمريكا ومشرعيها كعبيد للمال والمصالح، علاوة على حماية الحليف الأزلي إسرائيل!
لذا، فلن يستطيع الكونغرس فعليا الخروج من هذا الولاء التقليدي، وهو دعم إسرائيل المطلق غير المشروط، عبر دعم بقاء ابن سلمان، حتى لو كان على حساب القيم والدستور الأمريكي.
فحين يعلن نتنياهو أن ابن سلمان الشريك المناسب لدولة إسرائيل، فاعلم أنها هي التي تنال ما تريد وليس المشرّع الأمريكي، ومن ورائه حتما كوشنر الذي حين يزور إسرائيل يحل ضيفا مكرما في بيت نتنياهو. فكن على يقين بأن تحركات أعضاء الكونغرس ما هي إلا مسرحية لحفظ ماء وجوههم أمام الرأي العالمي والداخلي لا أكثر! وسوف يخدعون تركيا ويتخلون عنها إذا تعرضت مصالح إسرائيل لأي ضرر أو تهديد، ومصلحة إسرائيل اليوم تتجلى بوجود ابن سلمان والحفاظ على بقائه في الحكم، كي تكمل إسرائيل مشروعها التطبيعي مع دول الخليج، على حساب تخلي هذه الدول عن الحق التاريخي للشعب الفلسطيني، وهو إقامة دولته وعودة اللاجئين، فهذا كله اليوم أصبح في مهب الريح!
كما أن ترامب تجمعه مصالح تجارية شخصية مع ابن سلمان، وحصل على أموال مقابل هذا الموقف المتشدد للتستر على ابن سلمان، وكذلك لإيمانه بأن ولي العهد السعودي سيمرر صفقة القرن كما يريد، وربما حتى المخابرات الأمريكية التي كانت على علم بقضية الاغتيال هي جزء من المسرحية، وكانت تخطط لتورطيه واستخدام ورقة خاشقجي بالنهاية لتمرير أخطر مشروع إقليمي سيغير خارطة الشرق الأوسط والعالم، وهو فتح الحدود الجغرافية السياسية مع إسرائيل، وتعزيز العلاقات الخليجية الإسرائيلية عبر السعودية، فلو قبلت السعودية فباقي دول الخليج سوف تلحق بها، ربما باستثناء الكويت وقطر.
لذا، ما دام الكونغرس يستغل الوقت الضائع لإبراز امتعاضه وغضبه الشفهي، لا بأفعاله القانونية، فهذا ربما مؤشر واضح وخطر بأن هناك مسرحية استخباراتية وترامبية، والممثلون هم المشرعون في الكونغرس الأمريكي، والرابح هي إسرائيل ونفوذها وتمددها في الخليج العربي عبر الحاضن الجديد؛ السعودية المتلونة التي تحتاج لتخرج من أقذر قضية تمر بها، وهي اغتيال خاشقجي وحرية التعبير. فهل سيتحرك الكونغرس المعدل جينيا لصالح دستوره وقيمه، أم لصالح ولائه لإسرائيل؟