يسألونك عن مواسم أعياد المسيحيين في مصر، فقل هي مواسم تهاني من أعلى وتعازي من أسفل.. تهانٍ من السلطة السياسية لنظيرتها الكنسية وتعازٍ من المسيحيين مع تفجيرات وأعمال عنف موسمية. حين يتكرر هذا الأمر سنة بعد أخرى، فإننا لسنا بصدد حوادث فردية، بل بصدد ظاهرة ممتدة ومشكلة مستعصية.
خطاب إلقاء المسؤولية هو الحاكم عند وقوع حوادث العنف الطائفي بأشكاله المختلفة.
إذ يمكن إلقاء المسؤولية بسهولة على السلطة السياسية؛ بوصفها هي المسؤولة عن الأمن، والمخولة بمكافحة مثل هذه الظواهر التي تهدد التماسك المجتمعي. وحين تفشل في هذا الأمر، فعليها أن ترحل ليأتي غيرها ليكافح هذه الظاهرة. وبهذا ينتقل الأمر للشق السياسي ومشاكله. كما يمكن إلقاء المسؤولية على المجتمع بوصف المرض الطائفي ظاهرة اجتماعية ممتدة منذ عدة عقود، وتحديدا منذ الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وهنا تنتقل المشكلة لمشاكل المجتمع المصري بشكل عام، ويعزز هذا الأمر مشاهد التهجير الطائفي واللغة المحتقنة التي لا تخطئها عين.
يمكن إلقاء المسؤولية بسهولة على السلطة السياسية؛ بوصفها هي المسؤولة عن الأمن، والمخولة بمكافحة مثل هذه الظواهر التي تهدد التماسك المجتمعي
لكن دعونا ننظر للأمر من زاوية أخرى، ونقلب الآية لنسأل السؤال المشروع: ومتى كان الشأن الطائفي مستقرا والتماسك الاجتماعي بين المسلمين والمسيحيين شعارا؟ الإجابة بكل بساطة: حين تغيب السلطة، ودليلنا على ذلك ماثل للعيان منذ سنوات قليلة في ميدان التحرير خلال 18 يوميا في كانون الثاني/ يناير 2011.. كان المسيحيون يحمون المسلمين المصلين، ويصبون لهم الماء للوضوء، في مشهد متناقض مع كل التقارير التي تؤكد وجود احتقان طائفي ممتد منذ سنوات في مصر أسفر عن حوادث عنف بطول البلاد وعرضها، كان آخرها في ذلك الحين تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية.
الأمر نفسه تكرر مع ثورة 1919، والتي كانت إحدى تجليات الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحين.. لنا أن نتخيل الآن أن يعتلي قسيس مسيحي هو القمص سرجيوس منبر الجامع الأزهر؛ يخطب من عليه، وأن تكون الكنائس والمساجد تجمعات للمسلمين والمسيحيين.. كان هذا مشهدا عاديا في ثورة 1919. وبالمناسبة قبل هذا العام، لم تكن الأحوال
الطائفية بين المسلمين والمسيحيين في أحسن حال، إذ كان شبح الاحتقان الطائفي يخيم على البلاد والعباد، لكن وحدها الثورة، ومعها الحلم والأمل وغياب السلطة الفوقية، هي ما أدى لهذا المشهد البديع الذي أصبح مضرب الأمثال لعدة عقود، وجدد للوطنية المصرية دماءها وتماسكها.
وبعد أن طال على البلاد والعباد الزمان، وقست قلوبهم، جاءت ثورة يناير لتعيد النور مرة أخرى لدروب البلاد المظلمة، وتثبت أن المشكل الطائفي يمكن أن يتم حله بسهوله، وأن مصر ليست بلدا منقسم طائفيا، بل هي بلد يعاني سياسي واقتصاديا من الاستبداد. نسخت ثورة يناير ثورة 1919 واحتفظت بكل قيمها النبيلة، وعلى رأسها التعايش بين المسلمين والمسيحيين.
الاستقلال الاجتماعي وتماسكه هو خطر على أية سلطة مستبدة، ولهذا فهي تسعى جاهدة لتفخيخه من دون تفجير؛ حتى لا يخرج عن السيطرة
ولهذا، يصبح الحل واضحا أمامنا إذا استحضرنا دروس التاريخ القريب والبعيد، وهو أن مفتاح حل المشكلة الطائفي بيد الناس إذا خلوا بينهم وبين بعض، وهم يحملون هما مشتركا. فمصر كدولة ومجتمع عصية على أن تصبح حالة طائفية تحكمها محاصصات، لكنها ليست محصنة ضد المشاكل الناجمة عن سوء إدارة الشأن المسيحي والإسلامي؛ لأنها مرتبطة في أحيان كثيرة بسلطة تستثمر في مثل هذا النوع من المشاكل، تطبيقا لسياسة فرق تسد القديمة، ومرتبطة أيضا بغياب أية رؤية حضارية موضوعية للتعامل مع الشأن المسيحي بوصفه شأنا اجتماعيا، وليس سياسيا.
إن الاستقلال الاجتماعي وتماسكه هو خطر على أية سلطة مستبدة، ولهذا فهي تسعى جاهدة لتفخيخه من دون تفجير؛ حتى لا يخرج عن السيطرة. ولهذا، فإن مكافحة هذا الأمر يكون بأداء عكس ما تريده هذه السلط، وهو إحياء هذا التماسك الذي هو فريضة شرعية وضرورة إنسانية.