(1)
ماذا يحدث في "نزلة السمان"؟
الإجابة ليست في "نزلة السمان"، كما أنها لا ترتبط فقط بما يحدث الآن، فالقصة فيها زمان وإنسان وتصور عميق للأوطان، لذلك لا يصح معها الاختزال، ولا يصح معها "التطرف" بمعنى الوقوف مع طرف ضد طرف متغافلين عن التطور وضرورة التحديث، بشرط أن تكون الدوافع بريئة وليست مجرد ذرائع للسلب والنفي.
(2)
"عيل تائه، وأهله لاقوه".. هكذا تسخر النكتة المصرية من جشع رجل خبيث لجأ لاختزال قصة سيدنا يوسف على هذا النحو، لكي لا تشغله القصة عن التهام الطعام. أعتقد أن كثيرين منا استسهلوا اختزال القصص لتحقيق أغراض خاصة؛ قد تبتعد أحياناً عن المنطق السوي للحياة التي نبتغيها، فالهجوم على السيسي ونظامه قد يبرر للبعض مناصرة العشوائية ضد التحديث حتى لا يصب "الموقف العاقل والعادل" في مصلحة النظام. وفي الجانب المقابل، يستخدم أنصار السيسي شعارات التحديث والتطوير كأفخاخ لسلب الناس حياتهم، بحيث يتحول التطوير إلى عقاب جماعي يدمر حياة الناس، لصالح حديقة أو قصر يتفاخر به حاكم يدعي الحداثة، بينما كل ما يفعله هو طلاء التخلف بألوان براقة ليخدع المستثمر والسائح بعد أن خدع وسلب أصحاب الحق.
يستخدم أنصار السيسي شعارات التحديث والتطوير كأفخاخ لسلب الناس حياتهم، بحيث يتحول التطوير إلى عقاب جماعي يدمر حياة الناس، لصالح حديقة أو قصر يتفاخر به حاكم يدعي الحداثة
(3)
القصة إذن متشابكة وعميقة الجذور، ولا يصلح معها حلول الاستقطاب بين طرفين، حتى لو كان أحدهما ضحية الآخر بشكل واضح، وإليكم القصة العميقة على غرار مصطلح "الدولة العميقة":
رأيي أن ما يحدث في "نزلة السمان" الآن، حدث من قبل في جزيرة القرصاية، وحدث في جزيرة الوراق، وحدث في مثلث ماسبيرو، وحدث في بولاق أبو العلا، وحدث في سوق روض الفرج، وحدث في بلاد النوبة القديمة، وحدث في بركة الأزبكية أواسط العصر المملوكي، وحدث ويحدث في سيناء، كما في أماكن وأحياء كثيرة استوطنها الناس حتى شاخت وتهالكت، لكن "موقعها" كان يغري السلطات بسلبها لاستخدامها في مشاريع عصرية تجلب الربح أو المفاخرة للملاك الجدد. وفي كل مرة كان "السكان الأصليون" هم العقبة التي يجب إزاحتها بأبخس الأثمان، وأحيانا بالمجان عن طريق القوة الغاشمة والتهجير القسري، وليس بالإقناع والتراضي كما يحدث مثلاً في نموذج الأملاك لصالح توسعات الحرم المكي.
(4)
في البدء كان الترحال، ولما وجد الناس شروط الإقامة الآمنة النافعة في مكان ما استقروا وأنشأوا الأوطان. إذن، حسب التاريخ فإن "الإقامة" أرقى من "الترحال"، فقد تأسس مفهوم الأوطان نتيجة لتمسك الإنسان بقطعة أرض يعيش فوقها وتحقق له شروط الحياة التي يبتغيها، وتتطور فيها علاقاته بغيره من الناس، فتنشأ مع ذلك منظومة السلوكيات والقيم والأخلاق وتبادل المنفعة، وهذا هو النواة الأولى لمفهوم "الوطن"، وبالتالي فإن أي طرد لإنسان من أرض نشأ عليه، هي محاولة سلب للوطن وتكسير لفكرة الوطنية، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور "الحرب" كوسيلة طيبة للدفاع عن الأوطان، أو كوسيلة شريرة لسرقة أوطان الغير. فقبل الأوطان عرف الإنسان القتل، لكنه لم يعرف الحرب إلا مع بدايات تبلور فكرة الأقوام والأوطان. وهذا يطرح علينا سؤالاً جوهرياً حساساً: هل يصلح هذا التقديم التاريخي كمبرر لدفاع أهالي "نزلة السمان" عن بيوتهم وأرضهم بخوض الحرب ضد سارقي وطنهم؟
(5)
السؤال صعب وحرج، لكنه مطلوب بشدة في زمن التبست فيه القيم والمفاهيم؛ لأن سارق الوطن هنا ليس عدواً من الخارج، لكنه وكيل لما يفترض أنه النظام الذي يدير شؤون الوطن الأكبر، وبالتالي يدور الحديث "الرسمي" عن نزع الأراضي لصالح منفعة عامة، أو لتحديث يفيد الأمة كلها، أو لاستعادة حقوق سلبتها جماعات خارج القانون بطريقة "وضع اليد" واستخدام القوة.
هذا المبرر يطرح علينا بعض الأسئلة الحرجة التي تتعلق بتاريخ الأرض في مصر، وبأنماط الملكية التي سادت عبر العصور التاريخية، وهل الأرض ملك السكان أم ملك للنظام الحاكم
بدأت "نزلة المسان تكتسب أهمية اقتصادية لقربها من منطقة الأهرامات، ومع بناء السد العالي وانحسار الفيضان، حدثت توسعات ديموغرافية، ونزل السكان من الهضبة إلى السفح
فجوة الحكم والسياسة والمشاركة .. النقد الذاتي (49)