(1)
لا أريد اليوم أن أكتب مقالاً، ولا أرغب في تقديم إجابات، أفضّل أن "أنكش" دماغ القارئ ليكتب هو، ويفكر هو، ويقترح الإجابات التي تلائم ما نطمح إليه من مجتمعات ملائمة للحياة، ومقبولة برضى ممن يسكنها، لذلك سأميل لأسلوب "الدردشة" البسيطة، والصياغة الشعبية الدارجة التي صبغت أذهاننا في هذه المرحلة، من فرط شيوع "بوستات فيسبوك"، وتعالوا نجرب:
(2)
قرأت صباح اليوم خبراً رسمياً ((قال)) فيه المتحدث العسكري "إن قوات مكافحة الإرهاب بشمال سيناء استهدفت 7 بؤر إرهابية، وتمكنت من القضاء على 8 إرهابيين وتدمير 2 عربة مفخخة".. وهذا الخبر الصغير فرصة للسؤال عن الطريقة التي تعمل بها ماكينة صناعة الأخبار في إعلامنا، وفرصة أيضا لكشف بعض الأسرار عن السبل (الخفية/ المفضوحة) التي يتحكم بها "الموجه العباسي" في النيوز رومز، أو غرف الأخبار في المؤسسات الإعلامية المطبوعة والمنطوقة والمرئية.
(3)
القارئ دقيق الملاحظة قد يسأل: لماذا وضعت كلمة ((قال)) بين هذه القضبان؟.. هل هذا غمز على حجب الكلمة وحبس أصحاب الرأي؟
وأقول لهذا القارئ المنتبه: احترس من هذا التفكير "التآمري"، خذ مسافة يا مواطن بعيداً عن أهل الشر، ولا تخرج بأفكارك من الصندوق الرسمي، فمحترفو الأخبار يعرفون أن "قال" هي الأسلم وهي الأفضل (say is the best)، فهي لا تقبل الافتراء ولا خلط الرأي بالمعلومة، فإذا قال "تامر" فإن الأمر لا يخص أغراض المنصة التي تنشر، بل يخص "تامر" ومن وراء تامر، لذلك سنناقش الخبر كمعلومة بعيدا عن التربص والهوى:
لدينا قوات عسكرية احترافية استهدفت 7 بؤر إرهابية (سبع) ودمرت 2 عربة مفخخة، وتمكنت فقط من القضاء على 8 أشخاص (خللي وصف "ارهابيين" دا لما بعد).
يعني قوات مكافحة الإرهاب (لاحظ نوعية القوات الاحترافية) قتلت إرهابي وسُبع في كل بؤرة!! ولهواة الأرقام العشرية تبقى قتلت 1.144 إرهابي في كل بؤرة، ولو افترضنا جدلاً أن ثلاثة أشخاص مثلاً تواجدوا معا في بؤرة واحدة، حينها سندخل في مشكلة حسابية؛ لأن المعادلة ستصل بنا إلى سيريالية فرانكشتانية تضطرنا للاعتراف بقتل "إرهابي إلا رُبع" في كل بؤرة من بقية البؤر!!!
(4)
ما علينا..
فلنترك نص الخبر بلا تشكيك، ونننتقل لما وراءه..
العاملون في الأخبار يعرفون أن هناك موجات رائجة للأخبار المفضلة (حاجة كده زي التريند في السوشيال ميديا)، هناك موجات عفوية لهذه النوعية ترتبط بأحداث كبرى أو قضايا تشغل الناس (كأس العالم.. زلزال، فضيحة كبرى، جريمة بشعة، ظاهرة غريبة.. إلخ)، وهناك أيضا قوى إعلامية وماكينات ضخ سياسية تتحكم في "تصنيع التريند المطلوب"، لتتحكم في وقت الناس وطريقة تفكيرهم ونوعية أحاديثهم، وتوجيه انحيازاتهم بالتعاطف لجهة، أو كراهية جهة، وأحيانا للخوف والانكماش عن الفعل، أو تصنيع التذمر والاحتجاجات بتحكم هندسي خفي.. إلخ. فمثلاً، إذا وقع حادث قطار كبير شغل الرأي العام تهتم الصحف بنشر أخبار القطارات وحوداثها، حتى نصل إلى أخبار من نوع ضبط عامل مزلقان يأكل فسيخ اثناء العمل، وخصم ثلاثة أيام من راتب ناظر محطة ترك "لمبة محروقة" على رصيف محطة قطار قرية فشكور، وهكذا، لأن أي خبر مهما كان هزيلا وبلا قيمة ويفتقد إلى الحد الملائم مما نسميه "معامل التغير في الخبر"، يمثل تابعاً للزلزال الرئيسي ويمكنه أن يحافظ على اهتمام الناس بالقضية المطلوب استمرارها كحديث رائج.
(5)
بناء على هذا الكلام المهني، نفهم أن هناك من يريد تحضير موضوع الإرهاب في رأس وحياة المصريين، وربما يقدم رسالة أبعد من ذلك لجهات تهمه خارج الحدود، لكن هذا النظام الذي "يُحضِّر العفريت متعمداً"، ثم يحاول إظهار جهوده الخارقة لصرف والقضاء عليه. لا يفعل ذلك بجدية، لكي يحافظ على استفادته من بقاء العفريت، باعتباره الحارس الذي يحمي الناس من مخاطر وشرور العفريت، ولضمان استمرار اللعبة التي عالجها فيلم أمريكي بعنوان "The Village"، كتبه وأخرجه شيامالان وقام ببطولته يواكين فوينكس، وهو عن قرية منعزلة أسسها بعض الكبار على خرافة الخوف من عفريت يسكن الغابة، ويخطف كل من يحاول الخروج من حدود القرية، ثم يتضح أن القصة كلها ملفقة لصناعة فوبيا تمنع اختلاط الناس بالعالم الخارجي.
ويهمني في قصة الفيلم أثر هذه العزلة في تصنيع بيئة مناسبة لنمو الخوف وتصديق الخرافات والإيمان بوجود عدو حقيقي، رغم أنه دمية من القطن، أو "مواطن بقناع" تلعب معه في النهار ثم يتحول إلى وحش وهمي في الليل. وهذه العزلة تسلزم الحفاظ على أسرار الخدعة، وبالتالي لا يصح كشف المعلومات، ولا تصلح الشفافية، لأنها ستفضح خرافة "الوحش المُصنَّع"، وتنهي تحكم المهيمنين على القرية في حركة السكان، لذلك لا بد من الحجب ومنع حرية الناس في المعرفة، وإشاعة الحديث المبهم عن جرائم الوحش وجولات مكافحته، من دون تفاصيل واقعية ملموسة. فالسلطات التي تحكم بالخوف تمنع الناس من السؤال عن الحقيقة، ولا تسمح بنشر أي بيانات أو معلومات إلا على لسان العقيد تامر الرفاعي، بل تُجرّم من يناقش ويفند طبيعة العمليات التي تحدث في سيناء والأضرار (الجانبية) التي تعكر حياة المدنيين.
(6)
في هذه البيئة الظلامية عليك أن تصدق أن كل ما تطاله قنابل "القوة الغاشمة" هو إرهابي بالضرورة؛ لأننا لا نتعرف على هويات أحد، ولا تقدم لنا السلطات تفاصيل ضرورية لفهم مدى تقدم خطط القوات في مكافحة الإرهاب. فلو قصفت هذه القوات منزل مواطن مسالم وقتلت عائلته بالكامل، يكفيها نشر خبر مقتضب عن "قصف وكر للإرهابيين ومقتلهم جميعاً"، مع صور وشعارات بطولية عن حماة الأمن وخسة الإرهابيين المأجورين. وبعد أن اتسعت التهمة لتشمل قادة من الجيش كالفريق سامي عنان، وسياسيين مدنيين مسالمين، أصبح الحديث عن الإرهاب بهذه الصورة الضبابية، وبهذا الاستسهال في توجيه الاتهام دون شفافية كافية وأدلة مقنعة ومحاكمات تفصيلية.. أصبح محل تساؤل، بل أقول ومحل ريبة؛ لأن التعميم يتحول إلى "تعمية"، وبدلا من أن يكشف الإرهاب ويقدم للناس وججه البشع، يكتفي بتصويره كشبح خفي. وهي حالة ضبابية قد يختلط فيها الواجب الشرعي للقوات في مكافحة الإرهاب، بجرائم ضد المدنيين قد ترتكب عمدا للتهجير أو التصفية أو الانتقام، أو تقع عرضاً كأخطاء في التخطيط والتدريب والتنفيذ.. وهي أخطاء لا تستوجب إدانة القوات بالتآمر والتخريب والمساواة مع فعل الإرهابيين، لكن الكشف عنها والاعتراف بها يؤدي إلى ضمان تصحيح الخط وجدية التدريب وكفاءة التسليح والمحاسبة على التنفيذ، وهي أمور مهنية لا علاقة لها بالموقف السياسي والأخلاقي من محاربة الإرهاب، لهذا أوضّح أن الفيصل في عمل أي قوات رسمية في مهام من هذا النوع، هو استيفاء الشكل القانوني وقواعد التعامل مع حياة الناس، حتى لو كانت المهام العسكرية ضد أعداء صرحاء في جبهات حروب، فللحرب نفسها قواعد وقوانين ومواثيق وأخلاق، وفي الحرب مجرمون يجب أن لا يفلتوا من العقاب حفاظاً على الدرجة الدنيا من إنسانيتنا.
(7)
الضابط إذن في أي جبهة لا يقتل على المشاع، ولا تنتهي مهمته بقتل من يعتبره عدواً، أو إرهابياً، بل يجب أن تكون هناك تقارير تراجع مدى ملاءمة الخطة للمهمة، ومستوى تنفيذها والتزام الأفراد فيها بمعايير عملهم. فالضابط يقتل باسم القانون، ولا يطلق الرصاص في خناقة شوارع وبعدها يمكن أن يهرب أو يفتح طريقاً لمعارك الثأر والانتقام خارج القانون.
(الخلاصة)
القتل ليس تفويضاً مفتوحاً لأي شخص، فالقتل خارج القواعد جريمة، سواء كان القاتل إرهابيا يتحرك بقوانينه الخاصة محاولا فرضها على مجتمع لم يتفق معها فيها ولم يسمح بتشريعها، أو كان القاتل ضابطاً رسمياً لا يستوفي معايير القتل القانوني ويستسهل إطلاق الرصاص لأسباب لم نتفق عليها، ولا تستند لقوانين مشرعة.
وأعتقد أنه لهذا يتم تعميم وتحريم الخوض في تفاصيل عمليات مكافحة الإرهاب، لأنها مليئة بالأخطاء وربما الجرائم التي تستوجب محاسبة القاتل بغير مسوغ قانوني، وهنا يأتي دور "الإعلام العباسي" لتبرئة الخارج عن القانون، وتصويره كبطل يدافع عن القانون، بينما هو قاتل ببدلة رسمية لا أكثر، أو بتعبير آخر هو الوجه الثاني من عملة الإرهاب، أو "الإرهابي المقنع".
tamahi@hotmail.com
من دفتر أحوال الثورة.. يوم التنحي!
الاستثمار الأجنبي والتعديلات الدستورية المصرية