لم تنقطع الإعلانات عن تحقيق الانتصارت النهائية على تنظيم الدولة في العراق وسوريا على مدى السنوات الخمس الماضية، إلا أن إعلانات النصر تتبعها دوما كلمة "ولكن" للاستدراك، دون بيان طبيعة وماهية الإثبات والنفي.
ويعتبر إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أحدث إعلانات النصر. فقد أعلن في 22 آذار/ مارس الجاري، أن القوات المدعومة من الولايات المتحدة طردت تنظيم الدولة (داعش) من آخر معاقله في سوريا، واستطاعت أن تهزم التنظيم بنسبة 100 في المئة. وعرض ترامب أمام الصحفيين خرائط للمنطقة قبل وبعد القضاء الكامل على تنظيم الدولة، وقد أعلنت قوات سوريا الديموقراطية، خلال احتفال في اليوم التالي، القضاء التام على التنظيم، بعد ستة أشهر من إطلاقها هجوما واسعا، بدعم من التحالف الدولي بقيادة أمريكية، على آخر جيب للتنظيم في شرق سوريا، لكنها استدركت بالتأكيد على بقاء خطورة التنظيم.
وسرعان ما تكاثرت الاحتفاءات والتهاني بالنصر النهائي، مع لازمة ولكن. فقد وصفت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، هزيمة تنظيم الدولة بأنها "منعطف تاريخي"، ودعت إلى مواصلة المعركة ضد المتطرفين. وقال الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون على تويتر: "تحققت خطوة كبيرة اليوم. انتهى خطر كبير على بلدنا"، مضيفا: "لكن التهديد لا يزال قائما، ويجب مواصلة الكفاح ضد الجماعات الإرهابية". وقالت وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورانس بارلي، على تويتر أيضا: "داعش لم يعد يسيطر على أي أراض لكنه لم يختف".
لا يخفى على أحد أن الأكثر احتفاء بالنصر يعانون من أزمات داخلية خطيرة.
ولا يخفى على أحد أن
الأكثر احتفاء بالنصر يعانون من أزمات داخلية خطيرة. فالرئيس الأمريكي ترامب يواجه أزمة داخلية قد تكلفه رئاسته، في ملف حملته الانتخابية والتواصل مع روسيا، ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي تعيش أسوأ أزمة داخلية، على خلفية إدارتها ملف الخروج من الاتحاد الأوروبي قد تطيح بها، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يكافح للخروج من الأزمة الداخلية العاتية، مع تصاعد احتجاجات السترات الصفراء على سوء إدارته.
ثمة قناعة باتت راسخة لدى الخبراء والباحثين ومراكز الأبحاث والأجهزة الاستخبارية الدولية؛ بأن هزيمة تنظيم الدولة بصورة نهائية
لا تتمتع بالواقعية والمصداقية، وعلى الرغم من طرد التنظيم من مناطق سيطرته المدينية الحضرية في العراق وسوريا، والإعلانات المحلية والدولية عن نهاية تنظيم الدولة، إلا أن الوقائع كشفت عن حقائق مذهلة؛ تتعلق بسرعة تكيّف التنظيم مع التطورت الميدانية، والمرونة الشديدة، بالتحول إلى حالة اللامركزية
وإعادة الهيكلة التنظيمية. فالتنظيم لا يزال يتمتع بالقدرة والفعالية على تنفيذ هجمات متنوعة في مناطق عديدة في العراق وسوريا، وهو لا يزال ينتشر في جيوب عديدة على مساحات واسعة، ولا تزال فروع التنظيم وولاياته الخارجية تتمتع بالقدرة على تنفيذ هجمات كبيرة في بلدان عربية وإسلامية مختلفة، وتشكل شبكاته ومجاميعه المنسقة وخلاياه الفردية النائمة و"ذئابه المنفردة" خطرا على أمريكا وأوروبا.
قناعة باتت راسخة لدى الخبراء والباحثين ومراكز الأبحاث والأجهزة الاستخبارية الدولية؛ بأن هزيمة تنظيم الدولة بصورة نهائية لا تتمتع بالواقعية والمصداقية
إن توقيت إعلان النصر النهائي على تنظيم الدولة عن طريق منطقة "الباغوز"؛ يكشف عن توظيف سياسي للأزمات الداخلية في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، إذ لم يكن هذا الجيب الصغير يستحق كل هذا الوقت، فقد جرت عملية مماطلة ممنهجة لتحقيق أهداف سياسية لصرف النظر عن الأزمات الداخلية. ومع ذلك، فإن الحديث عن نصر نهائي على تنظيم الدولة لا يزال بعيدا، ففي العراق ينتشر في مساحات الفراغ الأمني والمناطق الهشة في محافظات عدة. ففي صلاح الدين، ثمة نشاط واضح في مناطق مطيبيجة والمسحك ومكحول والعظيم وجزيرة سامراء وجزيرة الإسحاقي والثرثار وقرى شمال غرب بيجي والشرقاط، وبالقرب من جبال مكحول التي باتت أكثر الأماكن خطورة في محافظة صلاح الدين، إضافة إلى المثلث الصحراوي الواقع جنوب نينوى وغرب صلاح الدين وشمال جزيرة راوة في الأنبار.. وفي سوريا، ينتشر التنظيم أيضا في منطقة البادية الممتدة بين الأطراف الغربية لنهر الفرات، وحتى أطراف محافظة السويداء والقلمون الشرقي وريف دمشق. فالتنظيم منتشر في البادية السورية على بقعة جغرافية كبيرة، وهي منطقة أبو رجمين الممتدة من شمال شرق تدمر، وصولا إلى غرب دير الزور وبعض الجيوب في البادية السورية.
إن إعلان النصر النهائي على تنظيم الدولة عبر محطة "الباغوز" هو مأساة أشبه بمهزلة، حيث تستعرض قوى عظمى آلتها الحربية الفتاكة إلى جانب حلفائها من "قوات سوريا الديمقراطية" على بلدة بمساحة لا تتجاوز كيلومتر مربع واحد؛ مكتظة بآلاف النساء والأطفال. ومع ذلك، فقد ارتكبت مجازر واستخدمت أسلحة محرمة دوليا. ونشرت وكالة فرانس برس صورة للحظة سقوط الصواريخ على الباغوز، يظهر فيها هروب نساء وأطفال وسط الغارات. وتداولت شبكات محلية
مشاهد صادمة من داخل بلدة الباغوز؛ لجثث قتلى مدنيين، بينهم نساء وأطفال، جراء قصف طيران التحالف الدولي. وأظهرت الصور تفحّم بعض الجثث، وتكدّس العشرات منها فوق بعضها، بينها لعناصر من تنظيم الدولة، هذا فضلا عن وجود أطفال فقدوا أمهاتهم وتركوا وحيدين. وذكر موقع "الرقة تذبح بصمت" أن "
قسد" حفرت قبورا جماعية فور سيطرتها على المنطقة، ودفنت فيها جثث القتلى المتفحمة؛ جراء استخدام مواد متفجرة وحارقة.
تستعرض قوى عظمى آلتها الحربية الفتاكة إلى جانب حلفائها من "قوات سوريا الديمقراطية" على بلدة بمساحة لا تتجاوز كيلومتر مربع واحد؛ مكتظة بآلاف النساء والأطفال
إن إطالة زمن معركة الباغوز لم يكن سوى عملية استعراضية لدول التحالف للتغطية على أزماتها الداخلية، وتهويل مشهدية نصر نهائي مفتعل، من خلال بث تقارير وهمية تظهر المحاصرين في الكيلومتر الأخير كوحوش تسيطر على إمبراطورية شر مترامية الأطراف، ولا تمل من نشر صور النساء والأطفال والجرجى وبعض المقاتلين في عملية إذلال ممنهجة. فقد انتهت السيطرة المكانية للتنظيم فعليا نهاية 2017، وانتهى مشروع "الخلافة" وحقبة الحكامة، ودخل التنظيم في حالة المنظمة مع عملية إعادة الهيكلة التي أقرها البغدادي في خطابه في 28 أيلول/ سبتمبر 2017، بعنوان "وكفى بربك هاديا ونصيرا"، حيث أسست كلمة البغدادي لعودة التنظيم لسيرته الأولى؛ بالحفاظ على وجوده كمنظمة تتوافر على أيديولوجبا وهيكل تنظيمي، وتمويل يستند بصورة أساسية إلى حرب العصابات وتكتيكات الاستنزاف في المناطق الأكثر صعوبة في العمق الصحراوي، فضلا عن الاحتفاظ بمفارزه الأمنية وخلاياه وشبكاته المنتشرة في المدن، وهو ما أكد عليه في كلمة بعنوان "وبشر الصابرين" في 22 آب/ أغسطس 2018.
في هذا السياق، ظهر المتحدث باسم تنظيم الدولة أبو الحسن المهاجر، في 18 آذار/ مارس 2019، من خلال كلمة صوتية بثتها مؤسسة الفرقان الإعلامية التابعة للتنظيم بعنوان "صدق الله فصدقة"، تحدث فيها عن الباغوز وإعلان النصر على التنظيم، قائلا: "ها هي اليوم الباغوز في الشام. لا يزال المسلمون يموتون فيها حرقا. يطالهم القصف بما يُعرف وما لا يُعرف من أسلحة الدمار الشامل". وقال: "أوَتحسبون أن مشاهد النزوح للضعفة والمساكين، الخارجين من حصار الموت في الباغوز في الشام، وصور النساء والولدان والشيوخ؛ ستفت في عضد أبناء الخلافة وجيشها وأنصارها؟ كلا والله".. وقلل المهاجر في كلمته من قيمة مزاعم البيت الأبيض بتحقيق النصر على التنظيم، واصفا المسؤولين بأنهم يعيشون "تخبطا وتناقضا، أعجز المتابع أن يفهم المراد بكلمة النصر الذي يتحدثون عنه". ونقل جملة من التصريحات المختلفة المتناقضة من قيادات سياسية وعسكرية أمريكية تشكك في تحقيق نصر نهائي، وذكّر بالعمليات التي استهدفت القوات الأمريكية في منبج وجنوب الحسكة. أشار المهاجر إلى حالة التنظيم بقوله: "كفاك فقد كان المجاهدون بضع مئين قبل فتح الموصل، وهم اليوم ألوف في إثرها ألوف".
كشف المهاجر عن النهج العسكري المستقبلي للتنظيم في العراق وسوريا وغيرها، في العمل كمنظمة بمنطق حرب العصابات وسياسة الاستنزاف، بالقول: "فيا جنود الخلافة في العراق والشام وخراسان واليمن، وشرق آسيا وغرب أفريقيا وليبيا وسيناء والصومال، وكل مكان، خذو للحرب أهبتها وشمّروا عن ساعد الجد لها، وانتهزوا الفرصة والتمسوا الغرة، وسيّروا الطلائع والكتائب وبثوا العيون، وتحفظوا من البيات، وأطيلوا أمد المعركة فما لعدوكم بذلك من طاقة. ولا يهولنكم ضجيج أحلاف الكفر ودعواها القضاء على الخلافة بحسر نفوذها"، كما قال.
كشف المهاجر عن النهج العسكري المستقبلي للتنظيم في العراق وسوريا وغيرها، في العمل كمنظمة بمنطق حرب العصابات وسياسة الاستنزاف
ولخص المهاجر طبيعة التكتيكات العسكرية المستقبلية بقوله: "فيا آساد الخلافة ورجالات الدولة في الرقة والبركة والخير، ثبوا وثبة الأسد الجياع، واثأروا لدماء إخوانكم وأخواتكم، وأعلنوها غزوة للثأر، تستأصل شأفة أهل الكفر والإلحاد في الشام، واجعلوها أياما زرقاوية فداوية تبيد أرتال الصليبيين والمرتدين فأحكموا العبوات وانشروا القناصات وأغيروا عليهم عصفا ونسفا بالمفخخات، فلا خير في عيش تستذل فيه الأعراض وتنتهك الحرم".
وأنهى المهاجر كلمته بالإشارة إلى سلامة البغدادي وتبجيله، قائلا: "حفظه الله"، وختم بوصية عسكرية أمنية نقلا عن البغدادي، قائلا: "كما ويوصيكم أمير المؤمنين بأن تتركوا أمرا لطالما دُعيتم لتجنبه والحذر منه، وهو ذو دور محوري في المعركة، ألا وهو أجهزة الاتصال: فقد تعدى ضررها وعمَّت البلوى من ورائها، فلا يجعلن أحدكم من نفسه وإخوانه غرضا لعدوه وهدفا رخوا، فلا ضير من أن يُنجز العمل من دونه في أسبوع إن كان يُنجز به في يومين"، الأمر الذي يشير إلى دخول التنظيم في طور شديد التكتم والسرية.
إعلان نصر نهائي على تنظيم الدولة لا تسنده الوقائع، ومشهدية الباغوز لا تخلو عن كونها مأساة، واختزال تعريف تنظيم الدولة بـ"الإرهاب"، لا يمكن أن يخفي الأسباب والجذور العميقة لجاذبيته
خلاصة القول؛ أن إعلان نصر نهائي على تنظيم الدولة لا تسنده الوقائع، ومشهدية الباغوز لا تخلو عن كونها مأساة، واختزال تعريف تنظيم الدولة بـ"الإرهاب"، لا يمكن أن يخفي الأسباب والجذور العميقة لجاذبيته. فخطر تنظيم "الدولة" لا يستند لمجرد كونه حركة جهادية إرهابوية، بل لكونه مثّل لكثير من الشباب أيديولوجية احتجاجية سنيّة غاضبة لما آلت إليه أحوال العرب السنة في المنطقة، من إقصاء وتهميش وإذلال بعد نهاية الحرب الباردة ومرحلة إحتلال العراق وحقبة تدمير الانتفاضات العربية. فتنظيم الدولة، بإعلانه إعادة تأسيس خلافة إسلامية سنيّة، لم يكن مجرد حركة جهادية متطرفة بأهداف محدودة، ولم يتمكن من خلق جاذبيته وتجنيد آلاف المقاتلين السنة العرب والأجانب بفضل قدراته التنظيمية ودعايته السياسية فحسب، بل إن معظم أنصار ومؤيدي التنظيم في العالم الإسلامي لا يتوافقون مع رؤيته الأيديولوجية الدينية المتصلبة وطرائق حكامته الفظة وأساليبه وتكتيكاته العسكرية المرعبة، فالتنظيم شكّل خيارا اضطراريا لأجيال شابه محبطة تشعر بوجود مؤامرة مركبة محلية وإقليمية ودولية تهدد هويتها السنية، وتستهدف حاضرها ومستقبلها، تلك هي أخطر سردية يؤمن بها أنصار تنظيم الدولة، وبهذا فنحن بانتظار موجة أخرى من التنظيم مع التدخلات الأجنبية والاستبدادات المحلية.