لا يمكن قراءة الأحداث في المنطقة العربية بمعزل عن بعضها، ومهما حاولت وسائل الإعلام ومنظرو "الهويات القطرية" ترويج انتهاء أحلام العروبة فإن الواقع يثبت فشل هذه التنظيرات.
مع انتهاء الموجة الأولى من ثورات الشعوب العربية قبل نهاية عام 2011، أخطأت معظم القوى المنتمية لتيار المعارضة السابق للأنظمة القديمة بتبني خطاب قطري، وحاولت غالبية هذه التيارات الإسلامية والعلمانية النأي بنفسها عن امتداداتها العربية خوفا من الاتهام الذي كان يوجه لها بأنها قوى غير "دولتية" مع أنها أنشئت بالأساس بأحلام قومية أممية، فيما عمل النظام العربي التقليدي والحكومات الرجعية بشكل عابر للحدود للتأكد من هزيمة الثورات وعدم وصول تأثيراتها لبلدانها.
خسرت قوى التغيير في اليمن، وكانت تناور في سوريا بين الخسارة والربح، ولكنها منيت بهزيمة كبيرة بعد الانقلاب في مصر، وهو الحدث الذي جعل هذه القوى عارية تماما أمام تيار الثورة المضادة، ونتحدث هنا عن قوى التغيير في كل المنطقة العربية، لأن قدر العرب أن يكون مصيرهم مشتركا يتأثر كل بلد بما يحدث في البلد الآخر.
قبل أكثر من أربع سنوات كتب الباحث في التاريخ الحديث بشير موسى نافع، عن أن الثورة العربية المضادة تجاوزت ذروة زحفها منذ زمن، وكان البعض يعتقد أن ما كتبه نافع يدخل في باب التمنيات، ولكن الوقائع أثبتت وتثبت أن الثورات حققت ولا تزال تحقق انتصارات مهمة، وإن كانت موضعية، ضد الثورات المضادة.
بعد فترة من الانقلاب في مصر، بدأت قوى التغيير تلتقط أنفاسها. فشل انقلاب اللواء المنشق حفتر في ليبيا في فبراير 2014، وكان مجرد فرقعة إعلامية، وشكل هزيمة موضعية للثورات المضادة. ثم شهد الأردن موجة جديدة من الحراك السلمي الذي أدى إلى إقالة رئيس حكومة في حالة نادرة في تاريخ البلاد يستطيع فيها حراك شعبي أن يسقط رئيس حكومة، كما فشلت محاولات جر قطاع غزة إلى حرب أهلية تؤدي إلى إسقاط حكومة حركة حماس كما يشتهي تيار الثورة المضادة.
أما في الخليج، فقد أدت جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي إلى إضعاف الدور الدولي لولي العهد محمد بن سلمان، وإلى تحويل صورته من مصلح سياسي واجتماعي واقتصادي إلى متهم بالمسؤولية عن الاغتيال، كما فشل تيار الثورة المضادة في فصل جنوب اليمن عن شماله، وفي القضاء على التجمع اليمني للإصلاح الذي كان هدفا للإسقاط قبل أن تضطر السعودية والإمارات للجلوس معه باعتباره تيارا وطنيا لا يمكن تجاوزه في اليمن.
وعلى أهمية هذه التراجعات، إلا أن الضربات الكبرى للثورة المضادة انطلقت من السودان، حيث يستمر الحراك الشعبي منذ أسابيع طويلة دون كلل أو ملل، ويستمر معه تنازل النظام الحاكم بالتدريج أمام مطالب الشعب. وقد يقول قائل ما علاقة الثورة المضادة مع نظام السودان الذي يصنفه البعض بأنه ينتمي للتيار "الإسلامي" الذي تعلن الثورة المضادة حربها عليه صراحة؟ ولكن الحقيقة هي أن الثورة المضادة هي مع حكم الأمر الواقع، مع الاستبداد، وضد أي تغيير نتيجة الحراك الشعبي، لأن انتصار أي شعب عربي سيمثل إلهاما لبقية الشعوب الطامحة للتغيير في كل العالم العربي.
بعد السودان، شكل دخول العامل الجزائري للمعادلة ضربة جديدة للثورة المضادة، وتبدو أهمية الجزائر من كونها ساحة غير متوقعة للثورات الشعبية بسبب النفوذ الكبير للجيش وقوى الأمن وبسبب حضور التاريخ بكل ثقله والخوف من تكرار "العشرية السوداء"، ومع ذلك فقد استطاع الشعب الجزائري أن يخوض حراكا سلميا عظيما دفع الجيش للتحرك وإزاحة الرئيس بوتفليقة، ولا يزال الحراك يتقدم لتحقيق نقاط جديدة في صراع مع القوى التقليدية لم ينته بعد.
ويبدو أن قوى الثورة المضادة أرادت استغلال انشغال الجزائر بهمومها الداخلية فحركت حفتر لشن حملته الجديدة على العاصمة الليبية طرابلس، رغبة منها في الحسم العسكري قبيل انعقاد المؤتمر الوطني، ومحاولة لتحقيق أهدافها عسكريا في ظل فشلها بتحقيق هذه الأهداف سياسيا عبر المفاوضات.
ولكن عنصر المفاجأة والبروباغاندا الإعلامية لم تفلح في تحقيق سيطرة سريعة دون قتال على طرابلس، بل أدت -حتى الآن- إلى تجمع القوات التابعة للجيش الليبي بقيادة حكومة الوفاق للرد على هجوم حفتر، وبالرغم من سيطرته السريعة على مدينة غريان في الطريق إلى طرابلس إلا أن قواته قد منيت بخسائر كبيرة في الزاوية وقرب العاصمة، ولا يبدو أنها ستحقق أهدافها العسكرية والسياسية، على الأقل مما تظهره التطورات الميدانية حتى الآن.
حققت قوى التغيير بلا شك انتصارات موضعية ومهمة ضد الثورة المضادة خلال السنوات الماضية، ولكن الصراع لم ينته ويبدو أنه سيستمر لسنوات لحين تحقيق تغييرات كبرى في المنطقة أو تحقيق انتصار كامل للثورة المضادة، وتبقى مصر هي العامل الأكبر في التغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط، فكما كان الانقلاب العسكري عاملا مهما في هزيمة الثورات الشعبية فإن انتصار هذه الثورات وتحقيق التغيير السلمي لن يتم دون انتقال ديمقراطي في مصر..
ولكن هل يمكن أن يحدث ذلك قريبا؟ لا يستطيع أحد أن يتوقع بدقة سلوك الشعوب وتحولاتها، ولكن تمادي النظام في القمع والاستبداد وعزمه على تعديل الدستور يمكن أن يشكل نقطة ارتكاز لحراك شعبي جديد.
سقوط بوتفليقة وهجوم حفتر على طرابلس.. أية علاقة؟