فزع إليّ صديقي نوري ليلاً، وكان معجباً بفكرة الإعلام السوري التي رأى خدعتها السحرية، وهي الرقص حول قصعة تراب قيل إنه من تراب
الجولان، لكنه كان يضحك من فكرة أن تحمل مذيعة سورية بوقاً وترقى هضبة وتخاطب رجلاً يدعى حسن في الجولان، وتناديه من بعيد، بعد أن
ضم ترامب الجولان إلى إسرائيل وتهنئه صائحة بأعلى صوتها في بوق من أبواق الباعة والأوكازيونات: يا رفيق حسن.. يا رفيق حسن.. صباح النصر.. أي أنها هنأته بضم الجولان، فسأل من هو الرفيق حسن، فقلت هل سمعت باللهو الخفي، اللهو الخفي طلع اسمه حسن. ودندنت بأغنية وديع الصافي: يا مسكينة يا ربى شو سمعها تقيل.
فقلت له اجلس سأروي لك قصصاً من قصص التراب من التاريخ الإسلامي، وفوق التراب تراب، فجلس مثل الذي طال شعره بين يدي الحلاق، فأمسكت بالمقص وبدأت أحلق، ولم أجد مناسباً أن أتذكر عمر بن الخطاب وهو ينادي في المدينة المنورة سارية صائحاً: يا سارية الجبل، الجبل، ورويتُ لنوري قصة الحاجب المنصور مع قارورة الغبار، وهو مؤسِّس الدولة العامرية في الأندلس، كان غلمانه يأتون إليه وينفضون ما علق على ثيابه وأسلحته من غبار ويجعلونها في قارورةٍ قد أعدَّها هو لهذا الغرض، وقد أوصى أن تُدفن معه في قبره حتى تشهد له عند الله تعالى يوم القيامة بجهاده ضدَّ أعداء الإسلام وذلك مستدلاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ".
مؤسس الدولة العامرية، توفي بعد سبعةٍ وعشرين عامًا من حكمه، وكان عمره أربع وستون سنة، وهو من ألمع الأسماء في تاريخ الأندلس؛ خاض أكثر من خمسين معركة ولم تُخذل له راية قط.
والقصة الثانية من الصين العربية
فقال نوري: الصين العربية؟
وأخرجت من غوغل هذا النص، الذي وقعت أحداثه في سنة ست وتسعين للهجرة. ويروي كيف استطاع المسلمون قهر الصين بعرض مسرحي استمر ثلاثة أيام مثّله الجنود والفرسان الفاتحون. وقد تكررت تلك المسرحية لكن في بلادنا عندما غزاها
ترامب وأدى رقصة العرَضَة، فوطئ تراب الجزيرة العربية، وختم ملوكنا، وجبى خراجنا.
جاء في الكامل في التاريخ أنه في هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم كاشغر، فغنم وسبى سبياً، فختم أعناقهم، وأوغل حتى بلغ قريب الصين.
فكتب إليه ملك الصين: أن ابعث إليّ رجلاً شريفاً يخبرني عنكم وعن دينكم. فانتخب قتيبة عشرة لهم جَمال وألسن وبأس وعقل وصلاح، فأمر لهم بعدةٍ حسنة، ومتاع حسن من الخز والوشي، وغير ذلك وخيول حسنة، وكان منهم هبيرة بن مشمرج الكلابي، فقال لهم: إذا دخلتم عليه، فأعلموه أني قد حلفت أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم.
فساروا وعليهم هبيرة، فلما قدموا عليهم دعاهم ملك الصين، فلبسوا ثياباً بيضاً تحتها الغلائل، وتطيبوا ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء قومه، فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحد ممن عنده، فنهضوا. فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ فقالوا: رأينا قوماً ما هم إلا نساء، ما بقي منا أحد إلا انتشر ما عنده. يقصدون الطيب.
فلما كان الغد دعاهم، فلبسوا الوشي والعمائم الخز والمطارف، وغدوا عليه، فلما دخلوا قيل لهم: ارجعوا، وقال لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك. فلما كان اليوم الثالث دعاهم، فشدوا سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر، وأخذوا السيوف والرماح والقسي وركبوا. فنظر إليهم ملك الصين فرأى مثل الجبل، فلما دنوا ركزوا رماحهم وأقبلوا مشمرين، فقيل لهم: ارجعوا، فركبوا خيولهم وأخذوا رماحهم ودفعوا خيلهم كأنهم يتطاردون. فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء.
قال نوري: خال وقف شعر جسمي كله.
تابعت: فلما أمسى بعث إليهم: أن ابعثوا إليّ زعيمكم. فبعثوا إليه هبيرة بن مشمرج، فقال له: قد رأيتم عِظم ملكي وأنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنتم في يدي بمنزلة البيضة في كفي، وإني سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني قتلتكم. قال: سل. قال: لمَ صنعتم بزيكم الأول اليوم الأول والثاني والثالث ما صنعتم؟ قال: أما زينّا اليوم الأول فلباسنا في أهلنا، وأما اليوم الثاني فزينا إذ أمنّا أمراءنا، وأما الثالث فزينا لعدونا.
قال: ما أحسن ما دبرتم دهركم، فقولوا لصاحبكم ينصرف، فإني قد عرفت قلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم. قال: كيف يكون قليل الأصحاب من أوّل خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل، فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، ولسنا نكرهه ولا نخافه، وقد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويُعطى الجزية.
فقال: فإنا نخرجه من يمينه ونبعث تراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها. فبعث إليه بهدية وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن، فقدموا على قتيبة، فقبل قتيبة الجزية، وختم الغلمان وردّهم، ووطئ التراب.
انتهيت من قصص الترابين، وكنت أريد أن أعرض خلاصة قصة تراب الجولان الذي ضحكوا به علينا هؤلاء المختومين بالحوافر، وأشرح له معنى الختم. وكان نوري مشغولاً بختم النساء الفرنجيات، والفرق كبير بين هذا التراب والتراب الذي ورد ذكره في السيرة النبوية، وهو التراب الذي أخذه النبي عليه الصلاة والسلام وذرّه فوق رؤوس المشركين الذين حاصروا بيته، يريدون قتله، وهو يتلو آيات من الذكر الحكيم، يس والكهف، وأبيّن الفرق بين الأتربة، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب، فوجدت أن نوري قد غفا مثل رئيس في قمة عربية، فهو مختوم مختوم مختوم.
فناديت: يا رفيق حسن.. يا رفيق حسن، مساء النصر، مساء الأحلام يا رفيق حسن.