واصلت جماهير الشعب
السوداني الانتفاض ضد حكم المشير عمر البشير بلا هوادة طوال أربعة أشهر، ونجحت في شهر الكذب العالمي (نيسان/ إبريل) أن تترجم حلمها بالخلاص من دكتاتورية البشير إلى حقائق، بدليل أن الطاغية دخل السجن في اليوم الحادي عشر من ذلك الشهر، وما زال هناك وسيظل هناك، إلى أقرب الأجلين: الموت إثر علة تمهله طويلا، أو متدليا من حبل المشنقة في نفس السجن الذي يقبع فيه.
عندما أحس كبار قادة الجيش السوداني أن الحراك الشعبي تحول إلى تسونامي قد يكنسهم هم أيضا، ويودي بهم المهالك، خاصة وأن الملايين احتشدت أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، ثم قررت الاعتصام هناك، انقلبوا على الرجل الذي أنعم عليهم الرتب الرفيعة والامتيازات البديعة، وأعلنوا الإطاحة به عبر وسائل الإعلام، ثم شكلوا مجلسا عسكريا قالوا إنه سيدير شؤون البلاد لعامين.
شكر الله سعيكم
قالت الجماهير لقيادة الجيش: شكر الله سعيكم، ولكن لا مجال لطنطاوي أو سيسي في السودان، ويكفي أن العسكر حكموا السودان لاثنين وخمسين عاما من مجموع ثلاث وستين سنة كان خلالها مستقلا، ثم أحكم الثوار حصارهم لقيادة الجيش، بأن نصبوا السرادقات في واجهته، وشيدوا المسارح والمطاعم والعيادات والصيدليات الميدانية، ثم قالوا للعسكر قلنا للبشير: تسقط بس، وقال المنافقون والمرتزقة المستفيدون من فساد حكمه "تقعد بس"، ولكننا من انتصر.
بعد أربع وعشرين ساعة من تشكيل المجلس العسكري الانتقالي، طار رئيس المجلس من منصبه، لأنه كان بطل الفيلم الهندي الذي تم إعداده على عجل للضحك على الجماهير وتدشين النسخة الثانية من عهد البشير، فقد كان الرجل وحتى 11 نيسان/ أبريل النائب الأول لرئيس الجمهورية، وحشد في المجلس بعض عتاة المناصرين للبشير من الجنرالات ليكونوا سندا له، ولكن ما إن صار مثار هزء وسخرية الجماهير، حتى ضحى به زملاؤه في المجلس العسكري، على أمل أن يقبل الثوار بمن تبقى من أعضاء المجلس على رأس هرم السلطة في البلاد.
لا ينكرون مساعدة الجيش
كما قلت هنا في "عربي21" على مدى ثلاثة مقالات، فثوار السودان لا ينكرون أن الجيش ساعدهم في الخلاص من البشير، وجنبهم المزيد من العنف الذي أودى بحياة العشرات منذ كانون أول (ديسمبر) 2018، ولكنهم يدركون أن قيادة الجيش لم تصنع الانتفاضة ولم تشارك في فعالياتها، ولكنها كانت مثل لاعب في مباراة كرة قدم، لم يسهم بأي قدر في مجريات اللعب، ولكن ما أن حانت لفريقه فرصة تسديد ضربة جزاء في مرمى الفريق الخصم، حتى اهتبل الفرصة وسجل هدفا، وطالب بأن يكون كابتن الفريق.
"حكى أحد جنرالات الجيش كيف أنهم ذهبوا إلى البشير وقالوا له إن الحراك الشعبي ضده هائل وإن الملايين تحاصر قيادة الجيش مطالبة برحيله، فماذا قال أمير المؤمنين عمر البشير؟ قال لقادة الجيش: نحن مالكيون والإمام مالك يبيح للحاكم قتل ثلث الرعية وبعض أئمة المذهب المالكي يبيحون له قتل نصف الرعية، ويضيف الجنرال: عندها عرفنا أنه سقط وشبع سقوطا".
الشارع هو الحكم
عمد المجلس العسكري في السودان إلى تجاهل "تجمع المهنيين" و"قوى إعلان الحرية والتغيير"، المنضوية فيهما التنظيمات النقابية والحزبية التي شاركت في الانتفاضة، ثم تسلمت زمام قيادتها ووضع جداول زمنية للمواكب، وتحديد مساراتها، معرضين أنفسهم للاعتقال والتنكيل، والتي أولتها الجماهير الثائرة ثقتها بالانصياع لتوجيهاتها، وحاول العسكر الاستقواء بأحزاب كرتونية صنعها حكم البشير، وأشركها هامشيا في الحكم، وظلت تطبل للبشير حتى يوم سقوطه، فما كان من قيادات الحراك الشعبي الثوري إلا أن قالوا للعسكر: لن نتفاوض معكم حول مستقبل البلاد والشارع هو "الحَكَم" بيننا.
وشهد يوم الثلاثاء الماضي حشودا لم يعرف السودان لها مثيلا، حينما تدفق الملايين على مقر الاعتصام على مداخل قيادة الجيش، ثم كان المشهد المهيب عندما شق العاصمة السودانية قطار يحمل آلاف المواطنين القادمين من مدينة عطبرة للمشاركة في الاعتصام، وزلزلت الخرطوم زلزالها، وكانت جميع المناطق التي مر بها القطار في رحلة مئات الكيلومترات قد أخرجت أثقالها الجماهيرية، محيِّية قطار الثورة، ومعلنة انصياعها لتوجيهات قيادة الحراك وليس العسكر.
عندها أدرك العسكر أن المبادرة ليست في أيديهم فعملوا بالمثل الإنجليزي:
If you cannot beat them, join them
"إذا لم تستطِع هزيمتهم، فانضم إليهم"، وأعلنوا اعترافهم بأن قوى إعلان الحرية والتغيير التي ينضوي تحت لوائها تجمع المهنيين النقابي هي الممثل الوحيد للثوار، ولإثبات حسن النوايا ضحى المجلس العسكري بثلاثة من أعضائه، كان أمر مناصرتهم للبشير على مدى عقود مكشوفا.
ويوم الأربعاء الماضي تم التوافق بين المجلس العسكري وقيادة الحراك الشعبي على معظم نقاط الخلاف حول الفترة الانتقالية، وهناك لجنة مشتركة بينهما تتولى الآن صوغ شكل الحكم الانتقالي وأمده، وفي حكم المؤكد أن الأيام القليلة المقبلة ستشهد انفضاض الاعتصام من أمام قيادة الجيش في الخرطوم، بعد أن تتحقق معظم مطالب الثوار المعتصمين.
ما ينبغي أن تتعلمه الشعوب المقهورة المتطلعة للحرية والعيش الكريم من شعب السودان هو: أن الحركة الجماهيرية المدنية ومتى ما تحلت بالوعي والعزيمة وقوة الشكيمة فليس من قوة مهما كانت غاشمة قادرة على دحرها.
إن الهبات الشعبية العارمة تكون في بداياتها عفوية، ولكنها تحقق غاياتها فقط في وجود قيادة مركزية ذات أفق تنظيمي سياسي، تحس بنبض الشارع وتنفعل به ولا تخونه.. العسكر ومهما زعموا، لا ينوبون عن الشعب كله أو حتى غالبية الشعب.