المواجهة التي فتحتها إدارة دونالد ترامب ضد
إيران تصاعدت خلال الأسابيع الأخيرة حدة وتعقيداً، ثم ارتفع مستوى المواجهة العسكرية مع التعزيز العسكري الأمريكي؛ الذي تمثل بإرسال بارجتين جبارتين من حاملات الطائرات والصواريخ، وأرتال من طائرات "بي-52" إلى منطقة
الخليج. ثم دق ترامب طبول الحرب على لسان جون بولتون، الأمر الذي فرض طرح السؤال: هل الصراع يتجه إلى اندلاع حرب كما حدث في مرحلة 2002/2003 بالنسبة إلى العراق، أم أن الوضع الراهن لا سيما من جهة موازين القوى التي تحكم المواقف لا تسمح بالوصول إلى هذه النقطة، وربما وصلت المواجهة إلى ضربات عسكرية متبادلة ومسيطراً عليها؟
لا شك في أن الوضع مختلف من نواحٍ كثيرة بين اليوم وما كان عليه في المرحلة العراقية. فعلى الأقل، كان قرار الحرب على العراق شبه معلن زمن إدارة جورج دبليو بوش، فيما كان دونالد ترامب قد وعد في معركته الانتخابية بإغلاق ما فتح من ملفات عسكرية، وعدم الزج بأمريكا في حروب خارجية، فيما بدا أن سلاحه الرئيسي في تنفيذ أهدافه وسياساته هو استخدام الضغوط المالية والاقتصادية التي يراها أكثر فاعلية من التورط بالحرب الحامية، كما ابتزاز الحلفاء بنهب الأموال منهم بحجة حمايتهم.
وهنالك الفارق الكبير على مستوى ميزان القوى العالمي في ما بين المرحلتين والحالتين من جهة، كما، من جهة أخرى، الفارق الكبير في المواجهة السياسية أو العسكرية من قِبَل كل من العراق وإيران. فإدارة الصراع الإيرانية في الملعب السياسي، كما المواجهة العسكرية من جانبها وجانب جبهتها، مختلفتان جداً جداً بين الحالتين، كما أن النتائج بالضرورة ستكون مختلفة جوهرياً.
لعل المشترك الوحيد بين الوضعين أو الحالتين هو الدور الصهيوني، أو الانحياز الأمريكي لتنفيذ هدف صهيوني "إسرائيلي" من وراء الصراع مع كل من العراق وإيران، أكثر منه هدف أمريكي، ومصلحة أمريكية، أو استراتيجية أمريكية على المستوى الدولي. وهذا الذي يلعب دوراً في القرار الأمريكي قد يطغى على الحسابات الدقيقة لموازين القوى، أو في تقدير الموقف والنتائج، الأمر الذي يفسر كيف ربحت أمريكا الحرب ضد العراق عسكرياً وفشلت سياسياً، وخرجت من العراق بخفيْ حنين.
يمكن أن تقرأ استراتيجية ترامب ضد إيران من خلال الممارسة السياسية والعملية، وليس التصريحات كما يلي: الذهاب بالحصار الاقتصادي إلى آخر مدى، وقد عُزز بالخطوات العسكرية (إرسال البارجتين وطائرات بي-52)، ليمنع أي تعرض من جانب إيران أو حلفائها لأمريكا وحلفائها؛ رداً على الحصار. فالواضح أن الاستراتيجية الأمريكية تتمثل في الذهاب بالخنق الاقتصادي إلى حدوده القصوى، مع التهديد بالرد العسكري على أية "محاولة مؤذية" ضد الذهاب بالحصار إلى أقصى مدى.
هذه الاستراتيجية بمثابة إعلان حرب ضد إيران، ولا سيما إذا لم تترك منافذ تجعل الحصار لا يصل إلى حد الخنق. من هنا، يجب اعتبار أن حرباً مندلعة الآن من جانب أمريكا ضد إيران، وإيران بالضرورة في حالة حرب. فالحصار في علم الحرب؛ حربٌ بلا نيران.
فالمعادلة الآن حرب عدوان من جانب أمريكا اقتصادياً وعسكرياً في آن. أما من جانب إيران، فهي في حالة حرب دفاعية تبدأ أولاً بفتح ثغرات أساسية ضد الحصار. وهنا تلعب السياسة وإدارة الصراع على المستويين الإقليمي والدولي؛ دوراً هاماً. ولكن ما يحدث من رضوخ للحصار الأمريكي من قِبًل شركات تابعة للدول المعارضة سياسياً لأمريكا، كما عدم الاصطفاف الدولي بقوة وتحدٍ، لمواجهة الصلف الأمريكي، المخالف للقانون الدولي وللأعراف الدولية، فهذا خطر على كل دول العالم، وذلك حين يُسمح لأمريكا أن تفرض حصاراً اقتصادياً ومالياً لإخضاع الدول الأخرى واستتباعها. وهو كأس قد يدور على الجميع، مما يجعل التهاون معه وعدم اتخاذ مواقف حازمة ضده؛ خللاً سياسياً على المستوى الدولي والإقليمي والعربي والإسلامي والرأي العام العالمي.
من هنا، تصبح مواجهة إيران وحلفائها لهذه الحرب ضرورة في مصلحة شعوب العالم كله، وليست مصلحة إيرانية فقط؛ لأن نجاح دونالد ترامب في استراتيجية الحصار الاقتصادي والحصار العسكري سيُخضع العالم للبلطجة الأمريكية، وسيُشكل خطراً كبيراً على القضية الفلسطينية وعلى المستقبل العربي والإسلامي، الأمر الذي يوجب الاصطفاف العالمي، وفي مقدمه الفلسطيني والعربي والإسلامي ضد أمريكا في الحرب العدوانية التي تشنها على إيران.
وإيران من جهتها لها كل الحق في مواجهة هذا العدوان، إذ كيف يمكن أن يسمح لإدارة ترامب أن تذهب بالخنق الاقتصادي والمالي والتهديد العسكري إلى الحدود القصوى، ولا يُسمح لإيران بالصمود والرد وكسر الحصار وردع العدوان قبل أن يحدث، وهو حادث، وفي أثنائه، وبعده؟
إن أول ما يجب أن يؤسس عليه هو التركيز على عدالة الموقف الإيراني في الحرب التي تخوضها أمريكا ضد إيران، وأن ثاني ما يجب أن يؤسس عليه الموقف هو الوقوف الحازم ضد لا شرعية العقوبات والحصار والتهديد العسكري بالأساطيل وحاملات الطائرات، أي الوقوف الحازم ضد استراتيجية أمريكا في مواجهة معارضيها، وتنفيذها لأهدافها وأهداف دولة الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين، والمتفشية كالسرطان. فهذه الاستراتيجية تهدد شعوب العالم كله إذا تركت تحقق على غاربها، كما وتهدد الحياة الدولية بالحروب والخراب وتجعل من القانون الدولي مهزلة. أما ثالث ما يجب أن يؤسس عليه الموقف، فهو ضرورة إنزال الهزيمة بأمريكا في هذه الحرب الظالمة التي تشنها ليس على إيران فحسب، وإنما أيضاً على العالم كله، بل يصل خطرها على الداخل الأمريكي نفسه حيث راحت تذهب به إلى الانقسام.
وبهذا يكون ترامب من خلال حربه ضد إيران؛ قد وضع نفسه والعالم أمام خطر المواجهة العسكرية التي قد تبدأ بضربة قاسية يرد عليها بمثلها أو أقل قليلاً. وهنا تبرز خطورة التدحرج نحو حرب واسعة، وهي حرب تفترض على أمريكا أن تفكر بها جيداً، وهي التي لم تحتمل ما واجهته من مقاومة في العراق وأفغانستان.
يذهب بعض المحللين إلى أن ترامب لا يريد أن يدخل الحرب، وليس من سياسته أن يكرر ما فعله بوش أو كلينتون أو أوباما، ولكن ما يفعله هو الدخول إلى الحرب؛ حين يذهب بالحصار إلى آخر مداه، وحين يستدعي البوارج والطائرات لتنفيذ سياسة الحصار لإرهاب إيران. فإيران لا تستطيع أن تسمح بالأمرين، ولهذا فترامب ذاهب إلى الحرب وهو منقادٌ وراء مجموعة من مستشاريه. وسُربت معلومات أن ترامب أخذ يضيق ذرعاً بمستشاريه الذين يسعون للحرب.
ويبقى على الدول الأخرى، ولا سيما روسيا والصين وأوروبا وتركيا والعراق، وكل من لا يريد الحرب، أن يكسر الحصار ولا يكتفي بمعارضته؛ لأن ترامب أعلن الحرب، ومضى ليشرب كأسها حتى الثمالة، إذا لم تأخذ الدول دوراً لمنعه، أو إذا لم ينسحب في الوقت المناسب.
ليس كافياً الركون إلى القول إن ترامب لا يريد الحرب أو راح يدعو للتفاوض، وليس كافياً القول إن إدارته منقسمة بين صقور يريدون الحرب وبين من لا يريدون الحرب؛ لأن الوقوف على الهاوية مع اتباع سياسة إما قطع الأنفاس وإما الركوع على الركبتين (الاستسلام)؛ سياسة خطيرة، ومع من؟ مع من يمتلكون القدرة على الرد، ويمتلكون الإرادة للرد حتى لو لم يكونوا راغبين في الحرب.
فاللعبة الأمريكية هنا خطرة، كما تمارس على الأرض عملياً، وإذا لم تتراجع مع ما وصلها، ويصلها، من رسائل "غير مباشرة"، فإن احتمالات التدحرج نحو الاشتباك تزداد يوماً بعد يوم. فالكرة في ملعب ترامب، وقد وضع نفسه في معادلة الخاسر إذا تراجع، والخاسر إذا استمر في عناده. وليتذكر أن أمريكا خسرت في العراق، بالرغم من نجاحها العسكري واحتلاله. والحرب هنا غير الحرب مع العراق، فأمريكا اليوم أضعف من أمريكا بوش، عسكرياً في البر، وسياسياً على مستوى العالم، وداخلياً على مستوى وحدتها الداخلية، فخسارتها بانتظارها.