المنظومة الإعلامية في أي بلد هي الوسيلة الإستراتيجية التي تحلم أي سلطة في العالم بالاستحواذ عليها بكل الطرق والوسائل للوصول إلى عقول وقلوب الجماهير، وفي حال انعدام القوانين والتشريعات ومؤسسات المجتمع المدني القوية والنقابات والاتحادات الصحفية الفاعلة والمواثيق الأخلاقية يكون مصير هذه الأدوات الإستراتيجية في المجتمع من إذاعات وقنوات تلفزيونية وجرائد وصحف ومجلات وغيرها تحت رحمة سلطة المال والسياسة.
وفي هذه الحالة تحدد معايير ومبادئ حرية الصحافة وفق ما يتناغم ويتناسق مع مصالح وأهداف هاتين السلطتين ومن يمثلهما في المجتمع.
في معظم دول العالم "مافيا " المال والأعمال والسياسة لا تؤمن بحرية الصحافة ولا بالرأي والرأي الآخر ولا بالتناوب على السلطة ولا بالشفافية
الغريب في الأمر أن الجميع يتغنى بحرية الصحافة وأهميتها للعمل السياسي والاقتصادي الناجح، لكن في المقابل نلاحظ أن الجميع يحاول مصادرة هذه الحرية والسطو عليها من أجل تحقيق أهدافه ومصالحه الضيقة.
فالأنظمة السياسية في الغرب والشرق والشمال والجنوب تتغنى بحرية الصحافة، لكن نلاحظ أنها تتهافت على الاعتداء عليها ومصادرتها، هل حان الوقت لإرساء تقاليد وأعراف تمجد حرية الصحافة التي تعتبر مفتاح الديمقراطية والحكم الرشيد وإشراك الشعب في صناعة القرار ومواجهة كل من يحاول العبث بضمير المجتمع ورأسماله الحقيقي.
كشف الحصار المفروض على قطر منذ سنتين الأداء الضعيف والرديء الذي تعاني منه معظم المؤسسات الإعلامية في الوطن العربي ودول عديدة أخرى في العالم، حيث استطاعت أيادي الفساد أن تشتري ذممها وأقلامها.
فلا ضمير ولا أخلاق ولا مبادئ مهنية؛ ما يهم هو المدح والتسبيح لقرارات السلطة حتى ولو كانت تلك القرارات خاطئة وضد مصالح الأمة والشعب.
ُفانتشر إعلام الفساد الذي بدلا من مكافحة القرارات الطائشة والقرارات المرتجلة والمبنية على الأنا المتورمة والغطرسة والأحادية والفردانية نجده يتفن في التزييف والتضليل وفبركة الواقع، الذي مع الأسف الشديد، يمجد الخطأ والتسلط والاستبداد. تغتصب حرية الصحافة يوميا في مختلف دول العالم سواء كانت تلك التي تدعي الديمقراطية والحرية والتقدم والازدهار، أو تلك التي تعاني ويلات النزاعات والحروب والفقر والجهل والتخلف.
في معظم دول العالم "مافيا" المال والأعمال والسياسة لا تؤمن بحرية الصحافة ولا بالرأي والرأي الآخر ولا بالتناوب على السلطة ولا بالشفافية، وأصبح من يملك المال والنفوذ والسلطة له حق التعبير والرأي، أما باقي شرائح المجتمع فتكتفي باستهلاك ما يُقدم لها بدون مساءلة ولا استفسار.
إخبار الرأي العام وإيجاد سوق حرة للأفكار أصبحت من المهام الصعبة في معظم دول العالم. والقائم بالاتصال يجد نفسه في هذه المعادلة بين المطرقة والسندان، فهو أخلاقيا ومهنيا وعمليا مطالب بإعلام وإخبار الرأي العام، ومن جهة أخرى يجد نفسه تحت ضغوط لا ترحم ولا تشفق لإرضاء أصحاب النفوذ والمال وأصحاب السلطة.
ما زالت السلطة في الوطن العربي تنظر إلى المنظومة الإعلامية على أنها أداة لتثبيت شرعيتها وبسط نفوذها وتمرير خطابها السياسي بعيدا عن طموحات الجماهير ومطالبهم
وهكذا بدل أن يكون الجهاز الإعلامي في خدمة التنمية المستدامة وتنمية الفرد وتنوير الرأي العام والكشف عن الفضائح والفساد والتجاوزات يتحول إلى وسيلة لإخفاء المستور وتبرير الباطل والتلاعب بالعقول وفبركة واقع مزيف لا علاقة له بالواقع الذي تعيشه الجماهير العريضة في المجتمع.
تكمن جدلية حرية الصحافة والديمقراطية في أن الأخيرة تقوم أساسا على الاتصال السياسي وحرية التعبير والفكر وبطبيعة الحال هذه الأمور لا تتحقق إلا بوجود إعلام يراقب وينتقد ويكشف ويحقق ويثير القضايا الرئيسية والحساسة في المجتمع للنقاش والجدال. فالأطراف الفاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بحاجة إلى وسائط إعلامية ومنابر للمعارضة والاختلاف في الرأي، والتعبير عن وجهات النظر المختلفة...الخ. إن أي تراجع في حرية الصحافة يعني تراجعاً في الديمقراطية، وتاريخ حرية الصحافة في العالم يؤكد فكرة التأثير المتبادل بين الديمقراطية والصحافة.
فالأنظمة السياسية الديكتاتورية أو السلطوية لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تنعم بصحافة حرة وقوية، ونفس الشيء يمكننا قوله عن تلك الأنظمة التي لا تؤمن بالتعددية الحزبية وبحرية الرأي والتعبير. فصحافة هذه الأنظمة تكون دائما أحادية الاتجاه تخدم من يشرف عليها ويمولها ويسيطر عليها.
ما زالت السلطة في الوطن العربي تنظر إلى المنظومة الإعلامية على أنها أداة لتثبيت شرعيتها وبسط نفوذها وتمرير خطابها السياسي بعيدا عن طموحات الجماهير ومطالبهم.
السلطة في الوطن العربي ما زالت بعد لم تستطع بناء المؤسسات اللازمة لضمان المشاركة السياسية الفاعلة ولضمان رأي عام قوي وفعال.
ونتيجة لكل هذا فإنها فشلت كذلك في بناء نظام إعلامي إيجابي وفعال وليس سلبيا يستقبل ويؤمر، نظام إعلامي يؤمن بالاتصال الأفقي ويعمل على إشراك مختلف الشرائح الاجتماعية في العملية السياسية وفي اتخاذ القرار، نظام إعلامي همه الوحيد هو كشف الأخطاء والعيوب وليس التلميع والتلوين.
فإذا كان واقع الإعلام العربي على هذا الشكل أهل يحق لنا أن نطالب بنظام إعلامي دولي عادل ومنصف ونحن لم نرتب أمور بيوتنا؟ أهل يحق لنا أن ننتقد العولمة الإعلامية والثقافية ونحن لم نتسلح بالشجاعة الكافية لإعطاء الحرية اللازمة للمنظومة الإعلامية لتقوم بدورها كما ينبغي؟ أهل يحق لنا أن ننتقد الوكالات العالمية للأنباء على القيم الإخبارية التي تنقلها وعلى التغطية السلبية والمضللة التي تقوم بها في مختلف أرجاء العالم؟ أهل يحق لنا أن ننتقد الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية لسيطرتها على الإنتاج الإعلامي العالمي وعلى القيم الإخبارية العالمية؟
وكيف يا ترى سنتعامل مع تحديات القرن الحادي والعشرين ونحن لم نعرف بعد كيف نوظف ونستغل وسائطنا وصناعاتنا الإعلامية والثقافية لخدمة حرية الفكر والرأي والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.
يحتاج النظام الإعلامي العربي الراهن إلى نظرة نقدية جادة مع نفسه كما يحتاج إلى مراجعة الذات للوقوف على السلبيات والتعلم من الأخطاء والهفوات السابقة للانطلاق بخطى قوية وإيجابية نحو مستقبل لا يكون فيه الإعلام وسيلة للسيطرة والتحكم والتلميع والتملق والتعتيم والتضليل والتزييف والدعاية والكذب وإنما وسيلة للحرية والعلم والمعرفة والتفكير والإبداع والاختلاف في الرأي ومحاربة الفساد وكشف العيوب والأخطاء ومراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبة المسؤول ووضع حد للغطرسة واحتكار الرأي واتخاد القرار.
عن صحيفة الشرق القطرية