في العالم العربي تٌغتصب الحشود والجماهير ويٌفبرك الرأي العام
بآليات تتحكم فيها مسبقا القوى الفاعلة في المجتمع. فالفضاء السياسي يسيطر عليه
ويتحكم فيه شخص واحد لا غيره وتساعده في المهمة مجموعة من الأتباع والخدم ليس من
أجل خدمة المصلحة العامة والمجتمع وإنما لخدمة معاليه. الفضاء السياسي ملوّث كذلك
حيث إن الأحزاب السياسية مجرد أسم على مسمى ولا تمثل إلا نفسها بدون قاعدة شعبية
ودون برنامج عمل ولا أجندة واضحة المعالم.
وبدلا من أن يكون الحزب قوة مضادة في المجتمع يعمل على المراقبة
والمحاسبة وتمثيل الجماهير لدى السلطة والدفاع عنها، نجد أن الحزب المحترم مع
الأسف الشديد يزكي الحاكم في منصبه ويزكي الرئيس المخضرم لولاية رئاسية أخرى
ويتنازل عن كل صلاحياته لمعاليه. فاللعبة السياسية من أساسها مزيفة وتقوم على أسس
مبتورة وغير سليمة حيث إن فرصة طرح الرأي والرأي الآخر وفرصة المعارضة والقوى
المضادة غير قائمة أصلا. إننا نسمع عن انتخابات رئاسية تعددية لكن الكل يهلل ويطبل
ويزغرد للرئيس وكذلك المجتمع والآلة الإعلامية ومختلف المؤسسات الرسمية وغير
الرسمية.
للعالم
الفرنسي بيار بورديو مصطلح انفرد به واشتهر به عند تناوله لقضية الرأي العام
والديمقراطية والمشاركة السياسة. المصطلح هو "اغتصاب الحشود"
Le Viol des Foules والمقصود به هو تلاعب القادة السياسيين والقوى السياسية وقادة الرأي
العام بالجماهير وبالحشود لتمرير رسائل معينة وأجندة معينة لصناعة الرأي العام
الذي يتناغم ويتناسق مع برامجهم. وكلمة اغتصاب هنا كلمة تخرج عن إطار الإتيكيت
والآداب والأخلاق وهي مقصودة من قبل بورديو لأن الحشود في حقيقة الأمر تُغتصب
وتُستعمل كأرقام ونسب مئوية لتمرير البرامج والمصادقة على القوانين وغيرها من
البرامج والمشاريع. فبيار بورديو لا يعترف أساسا بالرأي العام ولا يؤمن به ويرى
أنه مجرد وسيلة للادعاء بالشرعية وبسلطة الشعب.
فالرأي
العام هو عبارة عن موقف الجمهور من قضية معينة، والعبرة في الرأي العام هو أننا
نعطي فرصة للشارع أن يعبر عن رأيه إزاء قضية لكن بناء على معطيات ومعلومات وبيانات
وآراء وأفكار. وهذا يتطلب إعلام حر ونزيه ويتطلب حريات فردية وحرية صحافة ومجتمع
مدني فعال وقوي. فالكلام إذن، عن رأي عام بدون طرح وجهات النظر المختلفة وطرح
القضايا من مختلف الزوايا وإعطاء الفرصة كاملة للجمهور للنقاش والحوار والاتفاق
والاختلاف من دون إكراه ولا خوف ولا قهر ولا اغتصاب، يعتبر ضرب من التمويه
والتضليل. فالقوة السياسية المسيطرة في معظم الدول العربية تغتصب الحشود وتغتصب
وسائل الإعلام وتغتصب الأحزاب السياسية والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني لتعلو
كلمتها ولتفرض رأيها ووجهة نظرها على حساب العقد الاجتماعي والسوق الحرة للأفكار.
والحشود المغتصبة مع الأسف الشديد مغلوب على أمرها تركض وتجري وتهلل للتيار الجارف
الغالب المسيطر والفارض نفسه على مفاصل الحياة في المجتمع.
أصبح
الرأي العام يمثل أساس السلطة في عصر المعلومات وتكنولوجيا الاتصال وعصر الصراع
الحاد على من يملك المعلومة والمعرفة. والرأي العام يلعب دورا استراتيجيا في
المجتمعات الديمقراطية، وتزايدت أهميته في أواخر هذا القرن حيث إنه أصبح يمثل
المرجعية الأساسية في صناعة القرار وفي الفصل في الكثير من القضايا الحساسة
والمصيرية. فالرأي العام هو السلطة الحقيقية التي تعتمد عليها الدولة في تجسيد
شرعيتها وتثبيت وجودها سواء على الصعيد المحلي أو الدولي.
وكلما اعتمدت السلطة على الرأي العام ورجعت إليه في الفصل في القضايا
المطروحة في المجتمع كلما نجحت في تدبير أمورها وفي كسب رضا الشعب (الرأي العام)
عليها. فالرأي العام إذن هو الوجه الآخر للديمقراطية وحرية الصحافة حيث إنه يتفاعل
ويتأثر ويؤثر في كل منهما. فالديمقراطية التي لا تعتمد على الرأي العام لا نستطيع
أن نسميها ديمقراطية، والصحافة الحرة التي لا تشّكل وتكوّن الرأي العام وتؤثر فيه
وتتأثر به لا نستطيع أن نسميها صحافة حرة وفاعلة. والصحافة الحرة الفاعلة هي التي
تزود الرأي العام بمختلف وجهات النظر والآراء والدراسات والتحليلات والتعاليق
وتترك المجال واسعا أمامه لاختيار وتبني الرأي الصائب ووجهة النظر الصحيحة.
وفي
كل ما تقدم نسأل ما هو التقارب الموجود ما بين السلطة العربية والشعب العربي
"الرأي العام" في التعامل مع القضايا المصيرية والهامة، خاصة القضايا
التي تمس مشاعر وأحاسيس ومصالح الشعب مباشرة. نلاحظ أن الرأي العام العربي مهمشا
تهميشا كبيرا في الكثير من القضايا التي تهمه من قريب أو بعيد. الرأي العام في
الوطن العربي موجود كرقم وكـ “شيء" وليس كسلطة.
والظاهرة
الخطيرة التي تتفشى في المجتمعات العربية هي ظاهرة الرأي العام
"المفبرك" أو المنافق حيث إنه لا يعبر عن حقيقة وواقع الرأي العام،
ويصبح رجل الشارع يدلي بآراء وأفكار ووجهات نظر لا يقتنع بها على الإطلاق وإنما
يقولها لإرضاء السلطة لا غير، وبهذا نكون قد وصلنا إلى مرحلة خطيرة جدا وهي
الانتحار الذاتي وأصبح عندنا مجتمع لا يؤمن بما يقول ومجتمع مبني على النفاق.
وسواء في غياب الرأي العام الحقيقي الواقعي أو في ظل وجود رأي عام مزيف ومنافق فإن
السلطة لا تستطيع أن تتفاعل مع المجتمع ومع الشعب " السلطة الحقيقية “وهنا
تقل آليات التفاهم والاتصال الحقيقي الذي يؤدي إلى التفاعل الصحي ما بين السلطة
والشعب والاستغلال الرشيد والعقلاني للموارد البشرية والمادية المتوفرة في
المجتمع. كيف يصنع القرار في الدول المتقدمة والمتطورة والديمقراطية وكيف يصنع في
دولنا العربية؟ وهذا هو السؤال الذي يجب أن يطرح لمعرفة فشل القرار ونجاحه. القرار
الرشيد هو الذي يبنى على أساس المعرفة وتوفير المعلومة ووجهات النظر المختلفة
والآراء المتضاربة والبدائل المختلفة …الخ.
القرار
إذا كان يهم الأمة يجب أن يرجع إلى هذه الأمة لمعرفة رأيها في الموضوع "
وليكن الأمر شورى بينكم". وهكذا نرى ونلاحظ في الدول المتقدمة استعمال خبراء
وفنيين وفرق من الباحثين لتوفير كل المعلومات والمعطيات والإحصاءات حتى تقدم كل
السيناريوهات المحتملة والحلول الناجعة حتى يتخذ فيما بعد القرار السليم. ونستنتج
من هذا أن الرأي العام وبطريقة غير مباشرة يساهم في صناعة القرار وكلما أشركناه
نجحنا في إرضائه أو الاقتراب من إرضائه واتخاذ القرار الأصلح والأمثل. ما يجري هذه
الأيام في بعض الدول العربية يجسد في الواقع "اغتصاب الحشود"، المقولة
المشهورة لبيار بورديو التي تعبر عن استغلال القوى السياسية والقوى الفاعلة في
المجتمع لبراءة الجماهير لصناعة الرأي العام التي تريده وتحقق من خلاله شرعية
مزّيفة لا تقوم على أساس الديمقراطية والحريات الفردية وحرية الصحافة، بل تقوم على
التزييف والتضليل والكذب.
عن صحيفة الشرق القطرية