(1)
هاجرنا يا رسول الله، لكن شيئا فينا غير ما كان فيكم، فصارت هجرتنا شتاتاً منثورا:
- أكسوم هذه الأيام صارت مريبة جداً، نجاشيها يطلب الهدايا ويساوم التجار ويخادع بالشعار.
- سراقة لم يخرج من جاهليته، فلا زال يطاردنا.. طمعاً في جائزة، وتقرباً من طغاة قريش، وإشباعاً لغرس الكراهية.
- أنصار زماننا مشغولون في حرب مستعرة بين أوسٍ وخزرج، يهادنون خيبر ولا يُغيرون لغير الأنفال!
- أما نحن (أحفادك يا سيد المهاجرين) فقد صرنا طرائدا مستباحة، عُزّلاً من العز والعزوة.. من السيف والسقف، عالقين بلا سبيل أو دليل في رمال ممتدة: لا يَثْربُنا ظهرت، ولا مكّتُنا فُتحت، ولا بانت لنا شهامة أو كرامة.
(2)
المفتتح ليس شكوى، وليس إسقاطاً مباشراً على أشخاص أو جماعات، لكنه مناجاة لليتيم الذي أسس أمة، ومحاولة لإدراك سر هذه العظمة التي يهدرها النسل الغافل منذ قرون. إذ كيف لفقير حاربه قومه وآذوه وأجبروه على
الهجرة؛ أن ينتصر على قبائل الصحراء وأكاسرة الشرق وأباطرة الغرب، ولما قامت الدولة حولناها بانقسامنا وأطماعنا إلى أشلاء؟!
المناجاة هنا للتدبر والاقتداء، وليست للمهاجمة والمزاحمة والافتراء.. المناجاة محاولة للإمساك بعظمة ما كان لدينا وأهدرناه، لا لتوسيع الفتنة والفُرقة والبغضاء، وهذا قد يحتاج عودة سريعة لمراجعة الحدث العظيم وتداعياته لنتلمس بعض الدروس السياسية التي تفرق بين هجرة النبي الحكيم القائد وبين هجرة الأحفاد.
(3)
لا شك في أن الزمن تغير بهد مرور 1441 سنة، فلا شكل الدول ولا طبيعة المجتمعات ولا موازين القوى تسمح بتحقيق نفس النتائج لو طبقنا نفس الأفعال، لكن تبقى القوانين العامة والمفاهيم المرنة صالحة، مهما تغير الواقع وزادت تعقيداته. فقد ساهمت الهجرات في نشأة الكثير من الدول بعد دولة الإسلام، أو أدت إلى تغيير عقيدتها ولغتها وارتباطاتها، ولعل أمريكا وأستراليا وغيرهما نماذج فاجرة في ذلك. بل إن
أوروبا كلها تشكلت كدول حديثة تحت تأثير حركة الهجرة الداخلية وحروب القبائل، وهذا لا يعني إسقاط قدرة الهجرة على "فتح" المجتمعات القائمة.
وأعتقد أن مفهوم "الفتح" لم يمت مع توقف الفتوحات الإسلامية القديمة، لكنه انتقل إلى الحضارة الغربية، بل نجحت فيه إسرائيل إلى حد كبير؛ لأنه انتقل من مفهوم الغزو العسكري والاخضاع المباشر إلى مفهوم "الفتح السلمي" عن طريق تطبيع العلاقات وصخينة القيادات، وتحويل الدويلات الإسلامية الغافلة إلى ولايات صهيونية برداء عربي وإسلامي. وفي المقابل، يتحسب الغرب من المهاجرين، ويضع القوانين المشددة على حركتهم وتصرفاتهم، بحيث يتمكن من استلاب الوافدين وتغريبهم، حتى لو كانوا في نيتهم يخططون لأسلمة تلك المجتمعات، أو تأسيس رؤوس جسور، أو مناطق نفوذ ودعم ولجوء تساهم في إحياء الدولة الإسلامية التي تتآكل من داخلها، فتعوض ذلك بالبحث عن ذاتها ومجدها في فضاء بعيد!
(4)
القصة حرجة ومعقدة، والخوض فيها أقرب لمحاولة انتشال تائه من داخل حقل ألغام، بكل ما يحتمله المثال من خطر على حياة الطرفين (الضحية والساعي للإنقاذ)، لكن لا سبيل للتراجع، فالمهمة تستحق، والحرج يمكن رفعه بالحركة المحسوبة والحرص على حياة الطرفين، وهذا المدخل العاقل هو نفسه "المدخل الإنساني" و"المدخل العولمي" الذي طرحه الغرب كشعار لم يتحقق واقعياً بعدل ونزاهة، لكن تم استخدامه كحيلة لتسهيل "الفتح المعاكس" أي غزو الغرب للشرق من دون إعطاء حقوق الإنسان الغربي لمواطني الدول المفتوحة، وفي هذا أتذكر أن دبلوماسيا أوروبيا سابقاً انتقد صناعة الحدود العربية البينية فقال إنه عائد لتوه من جولة في تسع دول عربية لم تطلب منه (كأجنبي) أية تصاريح دخول معقدة، بينما هذا الحق لا يتاح للعربي نفسه، فما بالنا لو أراد العربي دخول أوروبا؟!
هذا يعني أن حق المرور مكفول وميسر في اتجاه واحد، أما المرور العكسي فيتم عبر إجراءات صعبة؛ لأنه "مرور مريب" أو "مرور إخضاعي"، بمعنى أن الطرف الأقوى يحاول استخدام وتوظيف الطرف الأضعف في مهام خدمية ووظائف متدنية لتأكيد سيادته وامتيازاته على إنسان آخر؛ تقول شعارات العولمة إنه يجب أن يتمتع بنفس الحقوق في العمل وحرية الحركة والسفر وحق الرعاية الإنسانية من المخاطر والتمييز!
(5)
هل يعني هذا أن نطالب ببقاء الناس داخل حدود دولهم بلا حركة؟!
وهل يعني أن نطالب بالعكس ونفتح كل حدود القرية الكونية بلا تنظيم وبلا ضمانات وبلا أي موانع؟
الأسئلة الصحيحة لا يتم طرحها بهذا الشكل الحدي، لأننا لن نحصل على إجابات صحيحة، لذلك أنبه إلى وجود أخطاء وتناقضات في جوهر المفاهيم التي يرددها العالم الحر ومنظماته، وهذا يستلزم دراسة مدى واقعية وصدق هذه المفاهيم وتلك المواثيق الإنسانية، لندققها ونقترب من تطبيقها كدستور أممي، بحيث يقلل العالم من بلادته وصمته عن جرائم تجويع شعوب أو التنكيل بفئات اجتماعية او تعذيب سجناء، أو خروج من مواثيق استقر العالم الحر عليها، بينما يكتفي بمواقف منتقاة، ويجتهد في إثبات إنسانيته بإنقاذ قطة عالقة على نافذة ناطحة سحاب، أو منح حق اللجوء لمعنفة سعودية، أو أميرة إماراتية، أو لاجئة أفغانية لمعت قصتها وصورتها في الإعلام الغربي، ويقدم هذه الحالات كدليل على تحضره، بينما هو الذي يدعم ويحفظ "ممالك التعنيف"، و"إمارات القهر" و"جمهوريات التنكيل"، وأنظمة الانتهاك الشامل للإنسانية.
(6)
القضية كبيرة ومركبة، ولا أريد أن أثقل عليكم في ذكرى الهجرة الشريفة، لكنني أردت فقط أن أنبه إلى ضرورة استخلاص العبرة، والتفكير في
الأديان باعتبارها ايديولوجيا عالمية، وليست أيديولوجيات جغرافية أو عرقية، وهو ما يتماشى مع المفهوم الإنساني العصري الذي ينظر لكل سكان الدول باعتبارهم بشر لهم نفس الحقوق الإنسانية، وينظر لكل الدول باعتبارها أجزاء افتراضية من "قرية صغيرة" اسمها كوكب الأرض.
إذا صدقنا ما يقوله دعاة العولمة، فلا بد أن يستفيد من دعوتهم كل فرد، باعتباره "إنسان ومواطن عالمي"، حتى لا يتحول الشعار إلى مجرد "حصان طروادة" أو حق احتكاري لا ينتفع به إلا الطغاة، وعصابات المافيا والأوليجاركيا ومجالس الشركات المستغلة العابرة للحدود، وحملة تأشيرات "دعه يمر"، وبقية هذه الطبقة النافذة في العالم التي تهجر وتهاجر وقتما ترغب وأينما تريد، وتعبر كل الموانع بحيث صارت الأرض على اتساعها موطنا مستباحاً لهم، بينما تضيق البلاد بأهلها رغماً عن عمرو بن الأهتم.
tamahi@hotmail.com