الحديث عن وقف الحرب والعودة للمسار السياسي كل يوم يكسب أنصارا جددا. وكنت قد تحدث في مقال سابق عن أسباب فشل الليبيين في تحقيق السلم والوئام، واختصرته في وجود قيادات تنزع للعنف وتعتبر القوة هي الخيار الوحيد لفرض إرادتها، والاستجابة الواسعة لهذا الخيار من قبل مكونات عدة في المجتمع.
عوامل العرقلة وتداخلها
إن ما يقف اليوم حائلا أمام خيار السلم والتوافق هو التطور الخطير في الأزمة الليبية وذلك بعد هجوم حفتر على العاصمة ثم اجتماع مكونات سياسية وعسكرية، كانت بينها خلافات حادة، للتصدي له، فانقطعت آخر شعرة بين طرفي النزاع، خاصة وأن طرفا لا يزال يعتبر حفتر هو الحاكم النافذ، فيما يشترط الطرف الآخر عزله لوقف القتال والشروع في التفاوض.
لا يزال صوت العقل وخطاب التوافق الحقيقي لم ينضج بعد ولم يصبح خيار المكونات الفاعلة سياسيا واجتماعيا في الشرق والغرب
ما سبق توصيفه يمثل عائقا كبيرا أمام تحقيق أي درجة من التقارب، وهناك عامل أكثر خطورة في مسار إعاقة
السلام، وهو أن النزاع والانقسام السياسي ثم التوجه للعنف وإلى استخدام القوة داخليا فسح المجال للتدخلات الخارجية التي مع الوقت صارت هي المتحكم في قواعد اللعبة وفي تحديد خيارات الأطراف المتنازعة عسكريا وحتى سياسيا.
لقد بات حل الأزمة الليبية، أو حتى منع الانزلاق أكثر في غياهب المجهول، في غير يد الليبيين، ومن يعتقد من الليبيين، في هذه الجبهة أو تلك، أن حفتر أو السراج بإمكانهما اليوم حسم القتال أو وقفه لصالح تسوية سياسية وطنية عادلة فهو واهم.
التنازلات ضرورة.. هل هي ممكنة؟
وقف القتال يمكن أن يكون خيارا يدفع إليه بعض من لهم تأثير في الواقع الليبي من الأطراف الدولية، والجدل اليوم يدور حول خيارات التسوية، وهو أمر يفرض نفسه وتلمس حضوره من حديث نشطاء عن التفاوض وعن التنازل وتجرع مرارة هذا التنازل لأن الطرفين المتحاربين لا يملكان خيار حسم الحرب لصالحهما وبالتالي ليس أمامهما إلا التراجع عن المواقف.
التراجع من قبل الجبهتين قد يكون جيدا إذا انتهى إلى وثيقة وفاق وطنية تتضمن ما يتفق عليه جل الليبيين في ما يتعلق بسبيل الخروج من عنق الزجاجة، لكن هل هذا ممكن اليوم؟ أي هل هناك إرادة حقيقية للتراجع خطوات للخلف محليا؟ وهل هي إرادة الأطراف الإقليمية المتورطة في الأزمة؟!
هذا هو مربط الفرس، وهنا يبرز التحدي أمام مقاربة التوافق، إذ لا يزال صوت العقل وخطاب التوافق الحقيقي لم ينضج بعد ولم يصبح خيار المكونات الفاعلة سياسيا واجتماعيا في الشرق والغرب. وأعود إلى مقدمة المقال لأقول بأن العاملين الأساسيين، المتداخلين في تأثيرهما، ما يزالان يفعلان فعلهما في تعقيد النزاع ومنع الوفاق.
تيار السلم والوفاق
إن الحديث عن التنازل يقتضي توفر إرادة ورغبة حقيقية لدى الأطراف المتنازعة في السلام وعزم على وقف شلال الدم ونهج الدمار، وللأسف هذا غير متوفر حتى هذه اللحظة، وحماسة النخبة السياسية والاجتماعية، خاصة في الشرق، ماتزال متوهجة للقتال ولـ "تحرير العاصمة".
هذا الوضع المحزن تستغله الأطراف الإقليمية المتورطة في الأزمة الليبية ويشكل ورقة التجاذب بين القوى الدولية التي توظف الصراع لصالح ملفات أكثر أهمية بالنسبة لها.
البحث عن السلم والوفاق ينبغي أن يكون رغبة حقيقية لدى إطار نخبوي وطني في الشرق والغرب
في ظل هكذا وضع فإن مخرجات التفاوض لا يمكن أن تكون شيئا يحقق الاستقرار الدائم الذي ينشده الليبيون، ويصبح الحديث عن إمكان التنازل وتجرع آلامه في غير محله، والمخرج لا يمكن أن يكون بعيدا عن اتفاق الصخيرات الذي لم ينجح في إنهاء الصراع.
البحث عن السلم والوفاق ينبغي أن يكون رغبة حقيقية لدى إطار نخبوي وطني في الشرق والغرب يصدح به ويروج له ليلتف حوله أعداد أكبر من النشطاء، خاصة من شريحتي الشباب والمرأة، ليتشكل تيار السلم والوفاق والعبور إلى الاستقرار، وكلما اتجهنا خطوة نحو هذا التيار كان الأثر أوضح على القيادات النازعة إلى العنف والقوة، وكانت أجندة التفاوض أقرب إلى الخيارات الوطنية الجامعة.