لم يخرج مسيحيو لبنان بعد من هواجس رواية "صخرة طانيوس" للكاتب أمين المعلوف التي تحدد الخيارات أمام المسيحيين باثنين: الهجرة أو الثورة. فالرواية التي جرت أحداثها في أواسط القرن التاسع عشر، وصّفت الواقع المسيحي بشكل دقيق، وهو ما أثبتته المحطات التاريخية في ما بعد، في الحرب اللبنانية، وإقصاء القيادات المسيحية ما بعد الحرب من السلطة، والاختلال بالميزان الديموغرافي في الوقت الحاضر، والصراع لتثبيت معادلة "المناصفة" بين المسلمين والمسيحيين في إدارات الدولة و"مقاومة" أي محاولة لتعديل هذه المعادلة التي تم الاتفاق عليها في اتفاق الطائف في العام 1989، وجرى التوصل إليها كتسوية بين الطرفين تقوم على إيقاف العد الديموغرافي مقابل تنازل المسيحيين عن بعض امتيازاتهم السياسية، وتثبيت معادلة "الديمقراطية التوافقية" خارج المقاربة العددية.
آخر جذر متين
ومسيحيو لبنان، هم آخر جذر متين في الشرق، لا يمكن قطعه، بعد تقليص الانتشار المسيحي في الشرق بفعل الحروب والأزمات في السنوات العشرين الأخيرة. فقد تناقص مسيحيو فلسطين بشكل كبير إثر تضييق إسرائيلي عليهم ودفعهم للهجرة وتهويد الدولة، كما أنه تم إخلاء مناطق بحالها في سوريا من المسيحيين، وخصوصاً في حلب ووادي النصارى في حمص وفي شمال شرق سوريا، بفعل الحرب الأهلية الدائرة هناك. وقد سبقهم مسيحيو العراق إثر الحرب التي اندلعت بعد إزاحة صدام حسين من الحكم في مرحلة أولى، استكملتها "داعش" في المرحلة الثانية في الموصل وغيرها في 2014.
لذلك، يجد المسيحيون أنفسهم في الشرق محاصرين بالهواجس واختلال الميزان الديموغرافي، ولم يبق مؤثراً فيهم إلا مسيحيو لبنان الذين يحافظون على وجودهم في السلطة، ويكرسون بعداً اجتماعياً متنوراً ومتنوعاً في المشرق، ويعززون حضوراً ثقافياً بالغ التأثير، أهمه توجيه رسالة للعالم حول التنوع، وضرورة تعميم النموذج اللبناني في مقابل العنصرية الإسرائيلية التي حاولت في حقبة معينة إرسال نموذج "الإسرائيليات" والتقسيم والدول الفئوية والعنصرية.
وبات النموذج اللبناني التعددي أكثر تأثيراً بعد قرار الكنيست الإسرائيلي في 2018 بإعلان يهودية الدولة، وهو ما جعل من فرضية الحفاظ على الأقليات والتنوع في الشرق، ضرورة، ووضع لبنان في موقع هام كونه آخر معقل للتعددية في الشرق الأوسط بالنظر إلى أن لا طابع دينياً أو طائفياً للبلاد. وبرز لبنان كحاضنة للثقافات والتعددية والتنوع، وهو مثال يعزز السلام ويثبت القدرة على التعايش، في مقابل الأحادية التي تنشئ مكاناً للتطرف والإرهاب.
مسألة العدد ثانوية
غير أن هذه الوقائع، تحول دونها تحديات كثيرة، أبرزها الاختلال في التوازن الديموغرافي الذي فرضته موجات الهجرة المستمرة منذ منتصف القرن الماضي. زمسألة العدد، ينظر إليها بعض المسيحيين على أنها ثانوية. ويقول الوزير اللبناني السابق سجعان قزي لـ "عربي21" إن "مسألة العدد ثانوية بالنسبة لأمن المسيحيّين وحرياتهم، فهم صاروا في المشرق أقليّة بعد الفتح الإسلامي بعدما كانوا الأكثرية في كل الشرق. لكن المسيحيّين راهنوا لثبيتِ وجودِهم وبلورة دورهم على العطاءِ الفكريّ والثقافّي والحضاريّ، وعلى العلم والتقدم والحالة النخبويّة".
ويؤكد قزي، وهو قيادي في حزب "الكتائب" العريق، أن أعداد المسيحيين باتت "مصدر قلق على وجودِهم لأن البيئةَ التي يعيشون فيها وساهموا في نهضتها وتمدّنها تغيّرت وانحرفت نحو الأحادية وعدم الاعتراف بالآخر. وأصلا، إن التطرف المنتشر في العالمين العربي والإسلامي من خلال الأنظمة الجهادية والتنظيمات التكفيرية والدول الدينية، لا يشكل خطرًا على المسيحيين فقط، بل على المسلمين المنفتحين والحضاريين الذين يريدون أن يعيشوا عصرهم. ونحن في لبنان مدعوون، مسلمين ومسيحيين، لحماية صيغة الشراكة الوطنية التي وحدها تشكل السد المنيع ضد التطرف والظلامية والانحطاط".
وظهرت إحصائيات في شهر آب (أغسطس) الماضي، للمرة الأولى منذ إحصاء العام 1932، تكشف عن الاختلال في الميزان الديمغرافي، وعن تراجع ملكية المسيحيين للعقارات، بينها إحصاء أجرته "الدولية للمعلومات" خلصت إلى أن المسيحيين في العام 1932 كانوا يشكلون نحو 60% من سكان لبنان مقابل 40% من المسلمين، أما في العام 2018 فشكل المسيحيون 30% بينما أصبح المسلمون 70% من إجمالي عدد السكان. وكشفت الدراسة أن عدد المسيحيين في لبنان يبلغ اليوم 1686000 ، فيما يبلغ عدد المسلمين الشيعة 1734000، وعدد المسلمين السنة 1721000 ، أما عدد الدروز فيبلغ 295 الفاً.
هواجس غير معلنة
عليه، يرى الكاتب السياسي سعد كيوان في حديث لـ"عربي21" أن "هناك مجموعة هواجس ومنها ما هو غير معلن، لكن المسيحيين لا يزالوا يعيشونها"، وقال: "عندما يعيشون في مجتمع كالمجتمع اللبناني بتركيبته المعقدة والموزاييك القائم على تعدد الطوائف فبالتأكيد العدد له تأثير، وبالتالي هناك اختلال في التوازن الديمغرافي، وهذا ما يؤدي إلى نزوح وهجرة وإلى إحباط ولسوء الحظ الهجرة الداخلية والخارجية تساهم في خلق شعور لديه يدفعه إلى التواجد في بيئة أو في منطقة مسيحية".
ومما لا شك فيه، بحسب كيوان، أن هناك عنصراً أساسياً هو موضوع حزب الله مؤثر على أكثرية اللبنانيين وليس على المسيحيين وحسب، فالكثير من المسيحيين يشعرون أن السلطة في يد هذا الحزب وبالتالي أين دور المسيحيين هنا؟ ويضيف: "هذا يعيدنا إلى الإحباط الذي أصاب المسيحيين في التسعينات، وما حصل آنذاك وما يحصل اليوم يعكس وجود مسؤولية سياسية". ويسأل: "هل الرد بأن يهاجر المسيحيون أو أن ينزحوا؟ بالطبع لا. الرد يجب أن يكون في السياسة، المسيحيين لا خيار لهم إلا الدولة، قيام الدولة والمؤسسات دولة الدستور والقانون وهي التي تحمي الجميع وتحفظ حقوق كل الأقليات وكل الطوائف والمجموعات حيث تتساوى في القانون وفي الحقوق والواجبات".
ويقول: "خيار االمسيحيين لا يكمن في الانحياز مع هذا الفريق ضد فريق آخر، لكن اليوم عمليا ليس هناك دولة في لبنان بالمعنى الحقيقي هناك أرجحية واختلال في موازين القوى على المستوى السياسي والاقتصادي وعلى مستوى القرار".
ذهنية الحماية
مع أن كثيرين ينظرون إلى الهواجس على أنها غير مبررة، وتستخدم في الصراعات السياسية بين القيادات بغرض التعبئة الأيديولوجية، إلا أن التغييرات التي طرأت على المسيحيين في لبنان خلال مئة عام، ثبتت بعض الهواجس، ومن ضمنها هواجس ثقافية مرتبطة بذهنية الحماية التي كانت قائمة في فترة حكم المتصرفية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتدور هذه الذهنية حول فكرة البحث عن تحالف إقليمي أو داخلي أو أي حساب ديمغرافي لتوفير الحماية.
المسيحيون الحريصون على وجودهم مع المسلمين يتطلعون إلى مشروع اللامركزية ليعززوا، وكذلك سواهم، وجودهم بغض النظر عن عددهم.
هناك طبقة سياسية مسيحية في وضع يرثى له، ما يعني أن هناك تراجعا لدى المسيحيين إن كان على المستوى العام أو على مستوى قياداتهم المسيحية،
لم يبدأ شعور المسيحيين بأن دورهم منقوص مع هذه الحكومة، فهم دخلوا مرحلة إحباط منذ أواخر الثمانينات
الفنان والسياسة بتونس.. جدل صناعة القيمة والتوظيف الانتخابي
لبنان والفرنكوفونية.. إرث النخب المقاوم للانحسار
شيعة المغرب.. ممانعة الواقع وانسداد الأفق (2من2)