الكتاب: التفكير على نحو مغاير: علم الاجتماع ونهاية الاجتماعي
المؤلف: ألان تورين
المترجم والمقدم: عبد المالك ورد
الناشر: مطبعة شمس برينت الرباط
الطبعة 2019
عدد الصفحات: 248
يكتسي هذا الكتاب أهمية خاصة، وذلك لاعتبارات متعددة، أولها أن كاتبه هو أحد أعمدة علم الاجتماع الفرنسي الراهن، ممن كرس كل جهوده لبناء نظرية جديدة في علم الاجتماع أخذت مسارا من النضج والاكتمال على مدى عقود من الزمن، فالرجل لم يأت إلى حقل المعرفة السوسيولوجية من فراغ، وإنما راكم أدبيات معتبرة ومشاركة منذ تسعينيات القرن الماضي، بدءا من سنة 1992 حين أصدر كتابه "نقد الحداثة"، ومرورا بكتابه "ما الديمقراطية؟" الذي صدر سنة 1994، وكتابه:"هل يمكننا العيش معا؟" الذي صدر سنة 1997، وتعريجا على كتابه الذي صدر سنة 1999 بعنوان:"كيف السبيل للخروج من الليبرالية"، إلى بداية هذا القرن الذي بدأت تتمخض لديه إٍرهاصات براديغم جديد في علم الاجتماع فصل بعض معالمه سنة 2005 في كتابه "برايغم جديد"، وزاد من تطويره سنة 2006 ضمن كتاباته المتوالية عن "عالم النساء" (2006 ) و"ما بعد الأزمة" (2010) و"نهاية المجتمعات" (2013) و"نحو ذوات إنسانية" (2015) وكتابه الذي ظهر سنة 2018 "دفاعا عن الحداثة".
وثاني هذه الاعتبارات، أن الكتاب لا يقدم مساهمة عادية في علم الاجتماع، وإنما يأتي على بعض القواعد التي ترسخت لمدة طويلة في كبريات النظريات الاجتماعية لاسيما منها البنيوية و الحتمية التي تعلي من شأن الاجتماعي على حساب فاعلية الفرد.
وثالثها، أن المؤلف ألان تورين هو من علماء الاجتماع الذين يحملون مشروع تفسير المجتمع اعتمادا على تطوير المعرفة السوسيولوجية، وفي الآن ذاته يحلمون بتغيير هذا العالم بعد الانخراط في عمليات نقده.
يأتي هذا الكتاب الذي صدر باللغة الفرنسية سنة 2007، وتمت ترجمته إلى اللغة العربية على يد الباحث عبد المالك ورد، ضمن مسار من صياغة براديغم جديد في المعرفة السوسيولوجية، تولدت مفرداته الأولى مع بداية القرن الحالي، وذلك في سياق اشتباك ثنائي، مع ظواهر المجتمع المستحدثة من جهة، ومع التفسيرات التي تقدمها النظريات البنيوية والحتمية وفلسفات موت الإنسان من جهة ثانية.
علم الاجتماع سياق أزمة المجتمع والبحث عن خيارات جديدة
تدور أغلب فصول هذا الكتاب حول قضية محورية تخص طريقة النظر إلى المجتمع في ظل التحولات العميقة التي يعرفها، وما إذا كان علم الاجتماع بإمكانه أن يتطور باستصحاب النظريات الاجتماعية البنيوية والحتمية، فالكتاب بهذا الاعتبار يطرح مشروعية علم الاجتماع محل تساؤل، لأنه يضع ضمن انشغالاته الأساسية بحث سؤال قدرة علم الاجتماع على التفكير في الأوضاع الاجتماعية ارتكازا على التصورات التي راكمتها المعرفة السوسيولوجية كما استقرت في نظرياتها ومقترباتها التفسيرية.
فالكتاب يتمحور حول موضوع المجتمع، أو للدقة، يحاول أن يناقش الأزمة التي دخلها هذا الموضوع من منظور علم الاجتماع الذي يقدمه ألان تورين، لاسيما بعد سياسات العولمة وتصاعد الرغبات التي تتجه إلى دك البناء الاجتماعي وكل النظم والمؤسسات المرتبطة به، إذ أضحى موضوع الاجتماعي حسب عالم الاجتماع الفرنسي جزءا من الماضي، ولم يعد بإمكانه تفسير الواقع اعتمادا على نفسه وحده، فالفعل الاجتماعي حسب تورين، أصبح يخضع إلى ما هو أقل من الاجتماعي فيه، أي إلى الفرد، مما يعني في أطروحة تورين نهاية الاجتماعي، وتنامي الوعي بالأفراد وذواتهم وحقوقهم أكثر من الوعي بالقوانين والمعايير التي تنتجها المؤسسات، وتبلور تحد جديد يتعلق بالإمكانية التي يتوفر عليها الأفراد في مواجهة القوى المناهضة لهم.
على أن مفهوم الفرد عند تورين لا يعني نفس المفهوم الذي قدمه جون لوك الذي ينفي البعد العلائقي للأفراد، ولا روسو الذي يجعل إرادة الأفراد ذائبة ضمن الإرادة الجماعية، وإنما يعني بالفرد الفاعل الاجتماعي الذي يجعل العلاقة الاجتماعية بعدا متأصلا فيه.
في نقد الخطاب التأويلي السائد
يحاول ألان تورين بناء أطروحته حول الذات على أنقاض نقد الخطاب التأويلي السائد، لاسيما منه الخطابان البنيوي والماركسي، اللذان وإن اختلفا في أدواتهما التحليلية والمخرجات أيضا، فهما يجتمعان في محاولة تقديم صورة لما ينبغي أن تكون عليه الحياة الجماعية والفردية على السواء. فالخطاب البنيوي الذي ساد في الولايات المتحدة الأمريكية، والنظرية الماركسية التي هيمنت على الفكر الفرنسي، في نظر تورين، هما اللذان يؤثثان هذا الخطاب التأويلي السائد، بعد أن تراجعت الطبقة العمالية وهيمنت الإيديولوجية الليبرالية تحت إشراف الدولة.
ويعتبر تورين أن هذا الخطاب صارا مهيمنا، بل اصبح أشبه ما يكون بعقيدة حاكمة لاسيما في فرنسا، وذلك منذ 1968، بإيعاز من شريحة من الأساتذة والطلبة ورجال الإعلام والجامعيين، إذ ساهم في فرض منظور يعتقد بوجود مجتمع بدون فاعلين، تحكمه حتميات اقتصادية، وصار يمتلك مساحات واسعة من التأثير على تيارات الفكر الاجتماعي، وأيضا على مختلف فضاءات التعبير.
يرى تورين أن العالم الاجتماعي لم يعد مركزيا في التحليل، نظرا للمكانة التي بات يتبوؤها العالم الثقافي في الحياة
يجزم تورين بأن الحياة ليست بهذا الجمود والموت، فالحياة تعج بالمعتقدات والأفكار والفاعلين والحركات والنزاعات والتوترات، ويستشهد تورين هنا بالتطور الذي حصل في عالم النساء، والذي أضحى يثبت بأنهن لم يعدن مجرد ضحايا يعانين من العجز عن الفعل، وأنهم صرن في كثير من الأحيان يقدن العالم برجاله ونسائه نحو عالم جديد بقيم ومعايير وسلوكات جديدة، والأمر نفسه سجله تورين بخصوص المجتمعات والثقافات التي حاول الاستعمار إخفاءها وتدميرها وإبادتها، بل إن الظاهرة الدينية التي حكم الخطاب التأويلي السائد بكونها تتجه نحو النهاية والاضمحلال، صارت ظاهرة جدية مسموعة وتحديا قائما لا يمكن إنكاره. كما أصبح سؤال العيش المشترك في ظل جماعات وثقافات متباينة له راهنية خاصة.
فحسب تورين، العالم لا يحكمه الهدوء والصمت والاستسلام للقوانين التي تحدثت عنها الحتميات، وإنما هو عالم متوتر تعلو فيه أصوات كثيرة، واحتجاجات وحركات وتعابير متمردة، تثبت أنه ليس بذات الصورة التي يحاول الخطاب التأويلي السائد صياغتها.
ويستدل تورين بهذا الخصوص بالحركات الاجتماعية وأدوارها الراهنة ويقدم ذلك كدليل على أن العالم يحاول أن يخرج من الهيمنة، وأن إيديولوجية الضبط والتحكم والهيمنة لم تعد قادرة على تفسير العالم، وأن أطروحات ماركيوز وفوكو وألتوسير وبورديو التي تعلي من شأن هذه الهيمنة المطلقة لم تعد قادرة على تفسير هذه الانفلاتات وهذه النزوعات الحيوية التي تمثلها الحركات الاجتماعية التي أضحت متغلغلة بشكل عميق في المجتمع، وتعمل على تغيير قيمه وثقافته من خلال اناراطها في مجموعة من القضايا الاجتماعية.
يجزم تورين بأن الحياة ليست بهذا الجمود والموت، فالحياة تعج بالمعتقدات والأفكار والفاعلين والحركات والنزاعات والتوترات
فرنسا.. حين تتحول العلمانية إلى أداة بيد اليمين
البنيوية الفرنسية من ليفي ستراوس إلى بيار بورديو
قراءة في آراء كلود ليفي ستراوس مؤسس الأنثروبولوجيا البنيوية