الكتاب: غرق الحضارات
المؤلف: أمين معلوف
ترجمة: نهلة بيضون
الناشر: دار الفارابي/2019
عندما خبت أنوار المشرق عمّت الظلمات أرجاء العالم. على هذه الفكرة يبني أمين معلوف، الروائي اللبناني ـ الفرنسي، جزءا من تصوراته لأهم أسباب حالة التفكك والبؤس التي تعيشها المجتمعات البشرية المعاصرة.
معلوف ابن المشرق مقتنع بأن هذا الجزء من العالم كان قادرا على تقديم النموذج الأكمل للتعايش بين الأديان المختلفة، والقوميات والثقافات المتنوعة، ولكان حينها العالم كله، الذي يراقبها على الدوام باعتبارها مهد الديانات الكبرى والحضارات القديمة، تأثر بهذا النموذج وتبناه، وهي احتمالية ظلت قائمة حتى وقت قريب أي حتى بدايات ومنتصف القرن العشرين، لولا أن الخيارات السياسية والمسارات التي سلكتها المنطقة قادتها إلى خسارة هذا السبق، بل والانغماس في سلسلة طويلة من الصدامات بين الأديان والمذاهب والعنف الذي أدى أحيانا إلى تفكك الدول وتلاشيها.
ابتداء يسجل معلوف تأملاته وتحليلاته لأحوال العالم منطلقا من تجربته الخاصة، مستعيدا الكثير من ذكرياته التي توزعت بين مصر حيث عاشت عائلة والدته، ولبنان حيث ولد وعاش جزءا من طفولته ثم سنوات شبابه الأولى. وبحكم عمل والده كصحفي وجد معلوف نفسه في وقت مبكر متابعا لكل ما يجري حوله من أحداث في زمن، كان تشهد فيه المنطقة العربية إرهاصات تحولات كبيرة.
لا يرى معلوف في ما يحدث حاليا تعبيرا عن فكرة صراع أو صدام الحضارات بقدر ما هو انحلال وانهيار لكل هذه الحضارات القوية منها والضعيفة
كان عبدالناصر آخر عمالقة العالم العربي، وربما آخر فرصة سانحة لنهوضه من كبوته، ولكنه ارتكب أخطاء جسيمة للغاية وبشأن مسائل جوهرية كثيرة
في هذا العام أتت مارغريت تاتشر إلى الحكم في بريطانيا معلنة عن ثورة محافظة عمادها تخفيف التدخل الحكومي في الحياة الاقتصادية وتقليص المساعدات الاجتماعية.. وهو نهج انتقل بسرعة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحتى إلى دول قريبة من النهج اليساري، حيث سيصبح تدابير من قبيل "زيادة إطلاق يد أصحاب المشاريع، والتخفيف من تأثير النقابات، بمنزلة معايير يقاس بها حسن إدارة الشؤون العامة".
وفي العام نفسه أيضا حدثت الثورة الإيرانية التي أتت بالخميني، وهي ثورة تركت تأثيرها على مجمل العالم الإسلامي، إذ بدا أن الإسلام السياسي أصبح قادرا على تصدر المشهد والقيادة. لقد "رفعت مختلف القوى المحافظة راية الثورة، في حين اضطر دعاة التقدمية إلى اتخاذ موقف دفاعي". أحدثت هذه الثورات المحافظة تغييرات في الإدارة الاقتصادية وفي العلاقات بين المواطنين والسلطات العامة، والأهم من ذلك أنها فاقمت وعممت التوترات المرتبطة بالهوية، بحسب معلوف. "فلطالما كان خطاب الذين يدافعون تقليديا عن أفكار التيار المحافظ، يتسم بنبرة مرتبطة بالهوية، غالبا ما تقوم على الدين أو الأمة أو الأرض أو الحضارة أو العرق أو على مزيج من كل ذلك. وسنصادفها لدى الجمهوريين الأمريكيين، ولدى القوميين الإسرائيليين في حزب الليكود، ولدى القوميين الهنود من حزب الشعب الهندي، ولدى حركة طالبان في أفغانستان، ولدى الملالي في إيران، وبصفة أشمل لدى جميع القوى السياسية التي قامت، ابتداء من السبعينيات من القرن الماضي، بثورتها المحافظة". أنها "هويات قاتلة" ساهمت في تفكيك المجتمعات وزيادة غربتها الداخلية، ليس في المنطقة العربية فقط بل في كل أنحاء العالم.
غياب البوصلة السياسية والأخلاقية
ثمة عاملان فاعلان في التوجهات السائدة حاليا، يفسران الحالة المزرية التي وصل إليها "التضامن البشري". الأول فكرة صاغها آدم سميث في القرن الثامن عشر، "مؤداها أن كل شخص يجب أن يتصرف حسب مصالحه الشخصية، فمجموع كل تلك الأنانيات سيكون بالضرورة لمصلحة المجتمع بأسره، وكأن "يدا خفية" تتدخل بعناية إلهية لتنسيق مجمل أعمالنا ـ وهي عملية دقيقة ومعقدة تعجز السلطات العامة عن أدائها، ومن الأفضل ألا تتدخل فيها لأن تدخلها سيزيد الأمور تعقيدا عوضا عن تيسيرها" يقول معلوف أن هذه الفكرة عادت منذ السبعينيات لتؤثر بشدة في مواقف أبناء عصرنا، وتجد لها مكانا في السياسات الاقتصادية المحافظة. لكن أثرها يتجاوز ذلك "فإذا لم نشأ أن تتدخل السلطة العامة في الحياة الاقتصادية للأمة، فلن نرغب من باب أولى في أن تصدر هيئة فوق وطنية توجيهات.. ومن البديهي أن نرتاب من كل ما يشبه حكومة عالمية مثل الأمم المتحدة.." وعلى المنوال نفسه سنرتاب من كل تحذيرات أممية أو خارجية من كوارث طبيعية كالاحتباس الحراري.. إلخ.
العامل الثاني أو لنقل السمة الثانية لهذا العصر، هي "إضفاء المشروعية على الفروق الاجتماعية مهما بلغت حدتها.. أصبح ينظر إلى الإثراء الفاحش بانبهار.. وليس بتقزز، وإذا كانت مداخيل بعض مديري الشركات تثير الاستهجان، فمداخيل لاعبي كرة القدم أو الممثلين أو نجوم الغناء لم تعد تثير الاستهجان على الإطلاق. ويزداد هذا الموقف حدة أيضا في بلدان مثل روسيا أو الصين، حيث ظلت نزعة سطحية للمساواة لفترة طويلة تصلح تمويها للظلم والاستبداد".ويتابع معلوف: "إذا كانت الفروق مثيرة للقلق في أيامنا الراهنة، فليس لأنها قد تتسبب بانتفاضات شعبية في جميع أنحاء الأرض، بل لأن اختفاء البوصلة الأخلاقية التي يمثلها مبدأ المساواة يسهم في كل بلداننا كما بالنسبة إلى البشرية جمعاء في تفكك النسيج الاجتماعي".
إلى ذلك يشعر معلوف أن خللا كبيرا يعيشه البشر اليوم بسبب غياب أي سلطة لها مصداقية معنوية وسياسية، وهي سلطة كان يتوقع من الولايات المتحدة الأمريكية أن تمارسها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي ولأنها الدولة العظمى الوحيدة المتبقية، سلطة كان يمكن أن يمارسها أيضا الاتحاد الأوروبي، لكنه لم يتمكن من القيام بهذا الدور، بل إن قوته في تراجع عما كانت عليه لاسيما مع انسحاب بريطانيا من عضويته، ومع تصاعد التيارات القومية التي تشكك بكل المشروع الأوروبي من هولندا إلى إيطاليا.
هذا الفشل، وكل ما سبق ذكره عن الفرص الضائعة والخيبات المتلاحقة، يرى معلوف أنه أدى إلى تفكك المجتمعات البشرية المعاصرة، وهو لا يرى في ما يحدث حاليا تعبيرا عن فكرة صراع أو صدام الحضارات، بقدر ما هو انحلال وانهيار لكل هذه الحضارات القوية منها والضعيفة، إن ما يحدث هو كما يقول عنوان كتابه غرق للحضارات.
هكذا يشرح عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين وجهة نظره للعالم
البنيوية الفرنسية من ليفي ستراوس إلى بيار بورديو
قراءة في آراء كلود ليفي ستراوس مؤسس الأنثروبولوجيا البنيوية