كتاب عربي 21

نعم قادرون (إلى الرئيس- 5)

1300x600
(1)
فخامة الرئيس القادر/
تحية احترام للآخر 
وبعد

تابعت احتفالياتك وافتتاحياتك لمشاريع البقر والجاموس، وعلى سبيل التشجيع أقول متمنيا الخير لجهود قائد سلاح الجمبري وقوات البتلو الباسلة: لقد آن لنا أن نرفع الرأس والصوت ونفخر برئيس جمهورية المزارع السمكية والبهائمية، بعد 30 عاما من الفخر برئيس جمهورية الكباري، خلّد الله ذكركما بما يدور على ألسنة الناس من ألقاب وصفات تناسب كلا منكما.

والحقيقة أنني لا أرغب في الحديث عن المعجزات التي أتيت بها في زمن قياسي، لأنني لا أحب الحديث عن العفاريت. وإذا لم تكن تعرف المعنى يا جلالة الرئيس، فإن المقصود بحديث العفاريت هو كثرة الحديث عن شيء لا يراه الناس في الواقع، إنهم يتكلمون عن العفاريت كثيرا لكن الكلام لا يقطع بوجودهم الطبيعي ولا بوظيفتهم الواضحة في حياة الناس، فيظل النقاش دائراً في فراغ الليالي، يواسي الجائعين ويلهي الخائفين ويسلي المنتظرين، دونما هدف، ودونما نفع. فليس هناك إلا الخوف، وليس هناك إلا المحظورات، وليس هناك إلا الرغبة الكامنة داخل الناس في تحويل خوفهم إلى سخرية، وتحويل قلقهم إلى حكايات يتسلون بها، لهذا سأحكي لك أنا أيضا حكاية، لعلها تسليك أكثر من الرسالة..

(2)
في ربيع 1992 التسعينيات، قررت إدارة مبارك، بمشورة الدكتور أسامة الباز، تصنيع انفراجة ديمقراطية مخططة، فسمحت بظهور الحزب الناصري كحزب شرعي، وهلل كثيرون للانفراجة واستبشروا خيرا كبيرا، وحذر قليلون (خاصة كوادر الحركة الطلابية في جيل الثمانينيات) من خديعة حصان طروادة. ونشأ صراع قوي بين "تيار المشتاقين"، وهو التيار الذي أفرز عينات مصطفى بكري وسامح عاشور وآخرين، وبين "تيار المستائين"، وهو تيار شبابي حركي كان يسعى لاستكمال المعارضة الراديكالية خارج دواليب الدولة وتأثيرات أجهزتها الأمنية، وتغلغلها داخل الكيانات عن طريق عناصرها الخفية. ومع الوقت تجذر الانقسام بين التيارين، حتى التهم الواقع السياسي الفاسد معظم عناصر الفريقين بالاحتواء أو الانزواء.

وسط ذلك الصراع وفي نهار لطيف من شهر أيار/ مايو في ذلك العام، كنت في طريقي مع الصديق الصحفي والقاص مجدي حسنين (رحمة الله عليه) إلى منزل الشاعر أحمد فؤاد نجم في حارة "خشقدم"، أو كما يسميه الناس "حوش آدم"، قبل انتقاله إلى هضبة المقطم، وفي أجواء نجم الانبساطية الرحبة جلسنا على الحصير ودار الكلام عن الحزب الوليد وصراعاته. حكى مجدي بالتفاصيل، وأشار إلى رهان الناس على الديمقراطية المنتظرة كفرصة لبناء التنظيم الشعبي الكاسح ليكون أداة منجزة للثورة.

نظر نجم إلى مجدي وهو ينفث الدخان ببطء، ورفع حاجبيه بابتسامة خفيفة وقال له: هي الديمقراطية بتتعمل كده يا سي مجدي؟!

رد مجدي بعد قهقهة ضحكته المميزة: دي إجابة ولا سؤال؟

قال نجم بطريقته: لا إجابة ولا سؤال، ما تبوظش القعدة بالكلام البايخ ده، أنا هقول لك نكتة أحسن..

(3)
قال نجم: مرة في بلدنا الناس اختلفوا على عدد ركعات صلاة العشاء، ناس قالوا أربع ركعات وناس قالوا ركعة واحدة، واحتدم الخلاف فذهبوا إلى الشيخ فقال: أربع ركعات طبعا.

حينها نظر واحد من فريق الركعة الواحدة وقال للشيخ: يعني واحدة ما تنفعش يا مولانا.. راجع نفسك أحسن؟

قال الشيخ ما تنفعش يا حاج عبده.

رد الحاج عبده متحديا الشيخ: طيب إيه رأيك إن أنا عملتها ونفعت؟!

(4)
كانت إجابة نجم واضحة، يمكنك أن تفعل ما تشاء، وأن تسمي الكتكوت أسدا، وأن تظل تحكي: أمسكت الأسد.. وضعت الأسد في جيبي.. ربيت الأسد.. ذبحت الأسد.. أكلت الأسد. لكن هذا الواقع المختل الذي تصنعه بكلامك وتوصيفاتك، لن يغير أبدا من حقيقة أنك مفصوم أو مخادع، فالكتكوت في الكلام قد يصير أسدا أو سفينة فضاء أو "أد الدنيا"، لكنه في الواقع لن يكون أكثر من كتكوت، لأن كلمة "كلب" لا تنبح ولا تعض، لذلك يا سيادة الرئيس لا نرى من عفاريتك إلا الخوف، ولا نحصل من معجزاتك إلا على الديون والفقر، ولا ينوبنا من احترامك للآخر إلا السجن والنفي والتكميم والتنكيل.

(5)
أتفهم يا سيادة الرئيس تحاملك بالموعظة على وزير الزراعة "القصير"، فلقبه قد يثير لديك بعض الذكريات السيئة، وربما أتفهم اهتمامك (رغم أنك طبيب فلاسفة عظيم) بالنزول بالخطاب السياسي مع وزرائك، إلى مستوى خطاب أم لابنتها بضرورة عمل "الهوم وورك" والنوم بدري لكي تكون "شاطرة" في المدرسة، لكنني لم أتفهم يا أفندم شعار "قادرون باختلاف".. يعني إيه؟.. وإيه علاقة الكلمتين ببعض؟

أنا أعرف يا سيادة الرئيس أنكم "قادرون"، وأعرف أيضا أنكم "فاجرون" في قدرتكم. فالقدرة في الوعي الشعبي المصري إذا ارتبطت بضعف الأخلاق ترتبط بالفجور، حسب التعبير العامي الشهير "قادرة وفاجرة". وكنت أظن أن ذلك التعبير موجه للمرأة الوقحة ضعيفة الاحترام والأخلاق في الحواري الشعبية، لكنني لم أتصور ان يأتي اليوم ويصبح التعبير موجها للدولة المصرية كلها، بعد أن صارت في عهدك "قادرة وفاجرة" لأن قدرتها لا تراعي أخلاقاً ولا احتراما، بل هي قدرة التبجح على الناس ومخالفة الأخلاق والاجتراء على الحقوق.

(6)
اغفر لي صراحتي يا عظمة الرئيس القادر، فأنا أيضا من المدافعين عن سقوط الدولة، وهذه الرسائل بالأساس مخصصة لكشف الخبثاء الخائنين الذين يسعون أو يتسببون في إسقاط الدولة سواء بجهل أو بتعمد. ولأنني لست من شعب "الإنتاج الحيواني" الذي كنت توجه له حديثك قبل ساعات، فإنني أحب أن أناقش سريعا كلامك المكرر عن وضعية الجيش كمدافع دستوري عن الدولة ومانع لسقوطها، لأنه أصبح مثل غزلية نخنوخ بسيفه، أو اعتماد الولد راجح على السيف في إدارة خلافاته، وكانت النهاية معروفة: قاتل محكوم بالسجن، أفلت من الإعدام لأسباب إجرائية بحتة!

أنصحك يا سيادة الرئيس بعدم توريط الجيش في هذه المساحة، اصدق في كلامك ودعه يقوم بمهمة جماية الوطن (وليس الدولة أو نظامها السياسي)، فوظيفة الحماية ليست محل خلاف، الخلاف في انحراف الجيش عن هذه المهمة والزج به في "معركة الإنتاج الحيواني". وهذه لست سخرية من الجيش، هذا احترام للجيش الدستوري الذي يليق بنا كوطن. ولكي أوضح هذه النقطة أكثر أحب أن أسألك:

أليست لديك فرقة حراسة خاصة لحماية حياتك؟

هل ينام "البودي جارد" معك في السرير؟

هل يتدخل في شؤون بيتك؟

هل يكتب لك خطابك؟

هل يذاكر الدروس للأحفاد؟

هل يشتري الفاكهة والخضروات بأسعار أرخص للمدام؟

أظنك تعرف أن هذه ليست مهمة الحارس. وإننا لا نطالب بإزاحة الجيش كحارس، بل نطالب بتفرغه لمهمته العظيمة والابتعاد عن شؤون الإدارة المدنية والسياسية وحياة الناس. فليحرس الجيش حدود مصر وليحرس أمنها الخارجي والداخلي وليحرس شعبها، لأنه جيش وطن وليس جيش نظام، لأنه "حارس شعب" وليس "حارس حاكم".

نحن مع الجيش الصحيح والقضاء الصحيح والبرلمان الصحيح والشرطة الصحيحة والإعلام الصحيح والسجون الصحيحة أيضا، نحن لسنا دعاة هدم، سواء هدم الدولة أو هدم الأصول، لذلك أقول للجيش وللبرلمان وللشرطة وللقضاء إن فرض صلاة العشاء أربع ركعات، وليس ركعة واحدة، حتى لو فعل "الحاج عبده" ذلك وتصور أن صلاته مقبولة.

لا يصح إلا الصحيح سيادتك، والرسائل مستمرة

tamahi@hotmail.com
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع