الكتاب: الباهي الأدغم الزعامة الهادئة.. ذكريات وشهادات وخواطر
الكاتب: إعداد وإشراف وتحرير الدكتور عبد الرحمن الأدغم، مراجعة وتنسيق الدكتور عبد اللطيف عبيد، والأستاذ عادل الأحمر
الناشر: دار نيرفانا للنشر، تونس، الطبعة الأولى تشرين ثاني (نوفمبر) 2019،
748 صفحة من القطع الكبير
يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الجزء الرابع والأخير من عرضه لكتاب "الباهي الأدغم الزعامة الهادئة.. ذكريات وشهادات وخواطر"، التفصيل في تاريخ الحركة الوطنية التونسية، وحقيقة الخلاف التاريخي بين الزعيمين التونسيين الراحلين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف.
بورقيبة وصالح بن يوسف.. توجهان مختلفان
فيما كان بورقيبة يرى حل المسألة الوطنية التونسية في باريس عن طريق الارتماء في أحضان الغرب، ويرسم مستقبل تونس ضمن الدائرة الغربية المتوسطية، كان صالح بن يوسف يرى أن حل المسألة الوطنية التونسية يكمن في تعزيز التلاحم الكفاحي مع الثورة الجزائرية المسلحة من أجل تحرير كل المغرب العربي، وفي توطيد العلاقة مع القاهرة، حيث أصبح فيها عبد الناصر في تلك الفترة العدو اللدود للاستعمار عامة والفرنسي بوجه خاص، بسبب دعمه المادي والمعنوي للثورة الجزائرية، وفي رسم مستقبل تونس ضمن دائرة الانتماء للهوية العربية الإسلامية.
وهكذا، فرضت فرنسا تسوية سياسية غير عادلة لحل المسألة الوطنية التونسية، لأن الحكومة الفرنسية تعتبر الحبيب بورقيبة جزءا منها، ووجوده على رأس السلطة ضروريا، ولأنه ينتمي إلى القيادات العربية التي تراعي المصالح الغربية. ولما كان الحبيب بورقيبة لا يدافع عن هوية الشعب التونسي العربية الإسلامية، فقد أعلن أنه يتبرأ من "الجامعة العربية"، مضيفا بقوله "إنّي لست منها ولا هي منّي وإنّي لا أبالي لا بنداءاتها ولا بشتائمها. على أنه يوجد تضامن تاريخي يرتكز على ذكريات تاريخية".
وقد استنكر يوسف الرويسي بشدة "كيف يعلن الحبيب بورقيبة متحديا شعور الشعب، أن ما يربطنا بالعرب ليس إلا من قبيل الذكريات التاريخية. وأن مصالح تونس ترتبط بالغرب وبفرنسا خاصة، وأن مرسيليا أقرب إلـى تونس من دمشق أو القاهرة ".
لقد نزلت الإمبريالية الفرنسية بكل ثقلها في المغرب العربي، لتعديل ميزان القوى لمصلحة بورقيبة، ولتحسم معركة حل المسألة الوطنية التونسية على أرضية الخط الذي يبقي تونس تدور في فلك الاستعمار الجديد. ولم تستطع الحركة اليوسفية المدعومة عربيا أن تصمد كثيرا في هذه المعركة غير المتكافئة.
استنكر يوسف الرويسي بشدة "كيف يعلن الحبيب بورقيبة متحديا شعور الشعب، أن ما يربطنا بالعرب ليس إلا من قبيل الذكريات التاريخية. وأن مصالح تونس ترتبط بالغرب وبفرنسا خاصة، وأن مرسيليا أقرب إلـى تونس من دمشق أو القاهرة
وكانت من نتيجة هذه المعركة بين التيار التغريبي الذي يقوده بورقيبة، والتيار الوطني العروبي الذي يقوده صالح بن يوسف، أن أدار نظام بورقيبة الجديد بظهره إلى المشرق العربي، وعمق قطيعته مع الأمة العربية، وبلغ به الأمر حد قطع العلاقات مع "الجمهورية العربية المتحدة "، بسبب لجوء صالح بن يوسف إلى القاهرة وتدبيره من هناك محاولات لاغتيال الحبيب بورقيبة.
وقد أصبح النظام التونسي يعيش عزلة رهيبة، خاصة بعد وصول الجزائر إلى الاستقلال، مما دفع بورقيبة إلى افتعال معركة بنزرت في تموز (يوليو) عام 1961، التي وجد فيها بورقيبة فرصة يغتنمها لإخماد نضالات الجماهير، للتخلص من العناصر اليوسفية المتحالفة مع جبهة التحرير الوطني في الجزائر، حيث أصبح تطور النضال المسلح هناك يهدده، ويهدد الإمبريالية الفرنسية. وفي هذه المعركة أمتنع بورقيبة عن تسليم السلاح لغير أعضاء الحزب الحر الدستوري، مما دفع بأبناء الشعب العزل إلى أن يستقبلوا بصدورهم قنابل الطائرات الفرنسية، وسقط منهم 1500 شهيد.
ولكن معركة بنزرت التي تكبد فيها الشعب التونسي خسائر جسيمة على المستويات كافة، أرادها نظام بورقيبة أن تكون مدخلا لكسر الطوق العربي المتضامن مع الحركة اليوسفية، ولاستبعاد تهمة التعاون مع الاستعمار الفرنسي، كما أرادها أيضا أن تكون نافذة ليطرد منها القوات الفرنسية، ويفتح بعد ذلك الباب أمام القوات الأمريكية، حيث تم إبرام اتفاقيات سرية، منحت الولايات المتحدة الأمريكية بمقتضاها قاعدتين عسكريتين: الأولى في الجنوب، والثانية في الشمال. كما تم إيجار ميناء حلق الوادي للأسطول السادس الأمريكي.
أي مصير لاقته الحركة اليوسفية؟
لقد انهزمت الحركة اليوسفية في المواجهة السياسية والعسكرية مع النظام البورقيبي الوليد، المدعوم من الإمبريالية الفرنسية. وعلى الرغم مما أصاب فرنسا من إنهاك، بسبب تنامي المقاومة المسلحة في تونس، وتجذر الثورة الجزائرية، فإن الإمبريالية الأمريكية كانت وما زالت في عنفوانها. وإذا كان ضعف فرنسا وطموح الإمبريالية الأمريكية في احتلال موقع فرنسا، قد حمل هذه الأخيرة على التفاوض مع بورقيبة من أجل تسوية سياسية للمسألة الوطنية والسماح باستقلال تونس، فإن عملية الاستقلال كما طرحتها الحركة اليوسفية، التي تعني تشديد النضال المسلح ضد الجيوش الفرنسية على التراب التونسي، وإجلاء القواعد الفرنسية من تونس، ومواصلة الكفاح المسلح إلى جانب الثورة الجزائرية، وتوحيد كامل المغرب العربي تحت راية العروبة، لم تكن مسموحة آنذاك، ولا هي مقبولة من الغرب. فقد كان ضروريا للإمبريالية الفرنسية أن يبقى المغرب العربي هامشيا تابعا، وإن بصيغ جديدة من خلال التعامل مع النخب الحاكمة الجديدة، التي أنشأت علاقة قوية مع المراكز الإمبريالية الغربية.
وكانت الحركة اليوسفية تمثل تيارا قوميا في أهدافه ـ يرتكز على شعار العروبة والإسلام كمرجعية ثنائية منغرسة في وجدان المجتمع ـ لكنه شبه عصري وتقليدي في واقعه، وتلفيقي في منهجه، يكفي أن نشير هنا إلى طبيعة القوى التي اصطفت إلى جانب الحركة اليوسفية، وهي القوى التقليدية المتشبعة بالفكر الإصلاحي السلفي، الفكر المصفح إزاء ما يشكل جوهر العصر أو جوهر الحضارة الغربية.
فالحركة اليوسفية لم تستطع أن تبلور فكرها الإيديولوجي المستقل والقائم بذاته، كما هو الحال بالنسبة للحركات القومية في المشرق العربي، (لأنّ صالح بن يوسف نفسه كان فرنكوفونيا ولم تتحكم في تكوينه الفكري الإيديولوجيا القومية، إضافة إلى أنَّه كان ممثلا لمصالح البرجوازية التقليدية التونسية ولفئات التجار، وتحالفه مع عبد الناصر كان تكتيكيا). حركة ارتبطت بردود الفعل الوطنية بسبب اتفاقيات 3 حزيران 1955. ولهذا ظلت أسيرة الفكر التلفيقي الذي تمزق، وفقد توازنه بين ثقل التراث العربي الإسلامي وصدمة الغرب وفكره المهيمن. كما أن التقارب الإيديولوجي بين صالح بن يوسف وعبد الناصر، والناتج كونهما قد عاشا بداية مرحلة المد القومي العربي الجماهيري، إبان أحداث الجمهورية العربية المتحدة، لم يمنع الأول من الاحتفاظ بمسافة إيديولوجية بارزة تجاه القومية العربية العلمانية المشرقية.
كانت الحركة اليوسفية تمثل تيارا قوميا في أهدافه ـ يرتكز على شعار العروبة والإسلام كمرجعية ثنائية منغرسة في وجدان المجتمع ـ لكنه شبه عصري وتقليدي في واقعه
لذلك كانت الحركة اليوسفية عاجزة عن بلورة مشروع فكري ثقافي يسهم في تأسيس خط قومي حديث، ومن ثم في التحول إلى قوة سياسية منظمة وفاعلة، قادرة أن تؤثر في مستقبل تونس السياسي، وظلت الحركة اليوسفية تعبيرا عن الإحباطات، والخيبات، وهي في نهاية الأمر حركة رفض أكثر منها حركة بناء، والالتقاء كان أساسا حول رفض هيمنة بورقيبة وما كان يمثله من مشاريع لتونس المستقلة؛ فالعجز عن تقديم بديل، كان نابعا أساسا من طبيعة هذه الحركة المحافظة، القادرة أكثر على المقاومة السلبية، مثل محافظة الفلاحين على الأرض، ومحافظة الزتيونيين على هوية البلاد، ومحافظة الباي على العرش كرمز للسيادة التونسية. فهي حركة تلتفت إلى الماضي أكثر مما تنظر إلى المستقبل، ولكن الذي يفسر فشلها خاصة، ليست طبيعتها التي كانت تتلاءم أكثر في طبيعة المجتمع، وإنما عوامل خارجية كانت حاسمة في تحديد مصير جميع المعارك التي شهدتها تونس في تلك الفترة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية والحضارية.
ومع هزيمة المعارضة اليوسفية، دخلت تونس مرحلة جديدة اتسمت بهيمنة نظام الحزب الواحد، والفكر الواحد، والرأي الواحد. فألغى نظام بورقيبة المظاهر الديمقراطية، التي حاول أن يتظاهر بها في البداية، ومنع وجود الأحزاب، وقمع حرية الصحافة، وأغلق صحف المعارضة، والتجأ إلى استخدام الإغراءات، وإلى اعتماد أساليب الإرهاب والمطاردة والتصفية الجسدية، التي كان الزعيم صالح بن يوسف أول ضحاياها، حيث تم اغتياله على يد المحترف البشير زرق العيون، وذلك في مدينة فرانكفورت بألمانيا الغربية عام 1962.
وبعد تصفية الحركة اليوسفية، ارتمى النظام البورقيبي في أحضان الإمبريالية الغربية، التي مكنته من كسب المعركة مع المعارضة العروبية، ورفع شعار معاداة القومية العربية، والتضامن مع العالم الغربي. وإذا كانت الحركة القومية التقليدية قد صفيت رسميا من خلال تصفية جناح صالح بن يوسف في الحزب الدستوري عام 1958، فإن التيار القومي التقليدي في المغرب الأقصى قد ضرب أيضا، حيث كان يمثله الجناح التقدمي في حزب الاستقلال الإنضمامي، الذي انفصل فيما بعد بقيادة الزعيم المهدي بن بركة ليكون " اتحاد القوى الشعبية". وانتهت آخر مواقع هذا التيار القومي التقليدي عندما ضرب " أحمد بن بلا"، ممثل جناح المغرب العربي في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وذلك في حزيران 1965.
وبعد أن قام النظام البورقيبي بتصفية صالح بن يوسف اغتيالا في ألمانيا الغربية، حدثت في تونس في نهاية عام 1962 محاولة انقلابية ذات طبيعة برجوازية صغيرة وطنية غير ملتحمة بالجماهير، شارك فيها عدد من العسكريين والمدنيين المنتمين إلى المعارضة اليوسفية، فكانت فرصة جديدة للنظام البورقيبي الذي أراد أن يبرهن من خلال استغلالها على "قوته وجديته"، وكان حصاد هذه المحاولة إعدام أغلب العناصر المشاركة فيها، وكان من بين المشاركين في الانقلاب وحكم عليه بالإعدام غيابيا الشيخ المسطاري بن سعيد، الذي توفي في دمشق في تموز (يوليو) 1997.
اقرأ أيضا: الاستقلال التونسي وجذور الخلاف بين بورقيبة وبن صالح
اقرأ أيضا: تونس.. كيف كسب بورقيبة معركته مع اليوسفيين؟ شهادة
اقرأ أيضا: تونس.. وثيقة الاستقلال الذاتي وهزيمة صالح بن يوسف