في منتصف كانون الأوّل/ ديسمبر 2019، ذَكرتُ خلال ندوة عقدها المركز العربيّ التركيّ للدراسات الإستراتيجيّة في مركز اتّحاد الكتاب الأتراك بمدينة إسطنبول، بعنوان "انتفاضة العراق.. الآفاق والتحدّيات"، أنّ "الحكومة العراقيّة القائمة تستمدّ قوّتها، رغم كلّ الجرائم التي ترتكبها، من الاعتراف الدوليّ بشرعيّتها".
ومعلوم في القانون الدوليّ أنّ هنالك ثلاث عناصر لشرعية الدول والاعتراف بها قانونيّاً وسياسيّاً، وهي (الشعب والإقليم والسيادة)، وبتوافرها تكون الدولة ذات شخصيّة اعتباريّة شرعيّة على المستوى الداخليّ، وهذه الشرعيّة الداخليّة بحاجة إلى شرعيّة، أو اعتراف من المجتمع الدولي ليكتمل موقف الدولة القانوني!
ويشترط للاعتراف بالحكومة، في أيّ دولة، جملة من الشروط العمليّة والقانونيّة، ومنها قدرة الحكومة التامّة في السيطرة على الإقليم الواقع ضمن مناطق نفوذها، وأن تكون حكومة دستوريّة، أيّ تعمل بموجب دستور حقيقيّ، وتلبية الشعب لقراراتها، وأخيراً قدرتها على تنفيذ التزاماتها الدوليّة!
قضيّة سحب الشرعيّة، أو تدويل قضيّة العراق، رغم تداعياتها الاقتصاديّة، وربّما الأمنيّة، إلا أنّها الأرضيّة الصلبة للتأسيس لإعادة بناء الدولة، ولانتصار الربيع العراقيّ، أو ثورة تشرين!
واقع حال العراق يشير إلى أنّ هذه الشروط الجوهريّة غير متوفرة في حكومة بغداد، حيث أنّ غالبيّة العراقيّين يندّدون بالحكومة، ويطالبون برحيلها ومحاسبة القتلة والمجرمين، وكذلك أرض العراق وسيادته في أضعف حالاتها، والبلاد في حالة فوضى متنامية، والحكومة والمليشيات (الفايروسيّة) تقتل المتظاهرين، وتتجاهل مطالبهم الإنسانيّة والدستوريّة!
وفي ضوء الفوضى الأمنيّة والدستوريّة في العراق أصدرت سفارات (16) دولة أوروبّيّة ومعهم أمريكا بياناً أدانوا فيه "الاستخدام المفرط والمميت للقوّة من قبل قوّات الأمن العراقيّة والفصائل المسلّحة ضدّ المتظاهرين المسالمين منذ 24 كانون ثاني (يناير) الجاري".
وأكّد البيان أنّ "قوّات الأمن والفصائل المسلّحة تواصل استخدام الذخيرة الحيّة ضدّ المحتجّين ما أدى إلى مقتل وإصابة العديد من المدنيّين، في حين يتعرّض بعض المحتجّين إلى الترويع والاختطاف، وندعو حكومة بغداد إلى احترام حرّيّات التجمّع والحقّ في الاحتجاج السلميّ كما هو منصوص عليها في الدستور العراقيّ، وضمان إجراء تحقيقات، ومساءلة موثوقة في الأحداث التي أسفرت عن مقتل أكثر من 500 من المحتجّين"!
وفي تقديريّ فإنّ البيان، ربّما، هو الإنذار الأوّلي، أو الأخير قبل ذهاب المجتمع الدوليّ لمرحلة سحب الشرعيّة عن حكومة بغداد.
وفي أفضل الظروف أتصوّر أنّ بيان السفارات الأجنبيّة فيه عدّة رسائل خطيرة، ومنها:
ـ البيان الدولي (المصغّر) جاء بعد ساعات من تعرض السفارة الأمريكيّة ببغداد لهجوم صاروخيّ، وهذه لأوّل مرّة يكون فيها بيان جماعي لدول أوروبيّة مع واشنطن من داخل العراق، ويدين الممارسات الحكومية، ويطالب بالتحقيق في قتل مئات المتظاهرين!
ـ أفْهَمَ البيان حكومة بغداد بأنّ المجتمع الدوليّ متابع بدقّة للمجازر المستمرّة بحقّ المتظاهرين.
ـ تذكير البيان لحكومة بغداد بالدستور العراقيّ فيه إشارة إلى أنّ الحكومة لم تلتزم بتطبيق الدستور، الذي بموجبه صارت حكومة (شرعيّة)؛ وعليه يمكن لتلك الدول، وبموجب هذا الخرق الدستوريّ تحديداً، السعي للطعن بشرعيّة الحكومة لأنّها لم تلتزم بتطبيق الدستور!
ـ الإشارة السابقة للدستور فيها تذكير بأنّ المليشيات، وخلافاً للدستور، هي التي تلعب بالحكم في العراق، وأنّ الحكومة لا تمتلك القدرة العسكريّة والإداريّة على لجمها وحفظ سلامة المواطنين.
ـ مُطالبة البيان "إجراء تحقيقات ومساءلة موثوقة بشأن مقتل وجرح آلاف المحتجّين منذ الأوّل من أكتوبر الماضي"، يعدّ بمثابة الخطوة الأولى لبداية تدويل قضيّة قمع المحتجّين، بحسب رؤية النائب (علي البياتي) عضو مفوّضيّة حقوق الإنسان العراقيّة، وهذا يعني عودة العراق لقبضة الفصل السابع، أو غيرها من العقوبات الدوليّة!
ـ ويوم أمس الخميس دَعَمت الممثّلة الأممية في العراق (جينين بلاسخارت) بيان السفارات الأجنبيّة عبر مطالبتها السلطات "بحماية حقوق المتظاهرين السلميّين، وتقديم مُرتكبي أعمال القتل غير المشروع والهجمات إلى العدالة "!
قضيّة سحب الشرعيّة، أو تدويل قضيّة العراق، رغم تداعياتها الاقتصاديّة، وربّما الأمنيّة، إلا أنّها الأرضيّة الصلبة للتأسيس لإعادة بناء الدولة، ولانتصار الربيع العراقيّ، أو ثورة تشرين!
فهل سيفعلها المجتمع الدوليّ ويسحب الاعتراف بحكومة بغداد وينقذ العراق، أم أنّ الاعتراف سيبقى الغطاء (الشرعيّ الدوليّ) لقتل المتظاهرين؟