الكتاب: الدولة والثورة والحداثة- من الاستثناء العربي إلى الخصوصية التونسية
الكاتب: د. عادل اللطيفي
الناشر: مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس، الطبعة الأولى، كانون ثاني (يناير) 2020
(412 صفحة من القطع الكبير).
محاولة محمد علي أو الاقتداء بالغرب
كانت أول محاولة للتماسك ووعي الذات في العالم العربي، محاولة الانبعاث العربي (النهضة)، التي قادها محمد علي، عقب حملة نابليون، وإدراك العرب حقيقة الخطر الكولونيالي الأوروبي. وقد حصلت محاولة الانبعاث هذه في ظل اندحار الطبقة التجارية العربية، التي ازدهرت بفضل التجارة البعيدة، والتي أسهمت في صنع الحضارة العربية، وانتقال مركز التجارة العالمية من الوطن العربي والبحر المتوسط إلى المدن الإيطالية والمحيط الأطلسي، ومجيء الرأسمالية الأوروبية التي قادت إلى تدمير الوطن العربي، خصوصاً في ظل سيطرة العثمانيين.
ولقد كان في التطور التجاري لأوروبا المركنتيلية خراب لعالم العرب التجاري. فقد هزلت المدن وأخذت الأرياف تحتل بكل تنافراتها مقدمة المسرح وتوقفت مراكز التفكير الممكن حول انحطاط عالم المشرق عن الوجود. وجاءت اليقظة عنيفة موجعة في مطلع القرن التاسع عشر مع قدوم حملة نابليون في مصر.
الدولة العربية الحديثة، لا تعبر عن الدولة ـ الأمة كنموذج غربي بأي معنى من المعاني، سواء منها القطرية التي اختزلت مفهوم الأمة في حدودها القطرية الموروثة من الاستعمار الأوروبي، أو القومية الحديثة التي عبرت عن دائرة انتماء أوسع
من هنا تتجلى سيرورة النهضة في تجربة محمد علي كمحاولة أملتها إسقاطات العوامل الخارجية الناجمة بدورها عن عملية الانخراط في النظام المركنتيلي الرأسمالي العالمي ما قبل الاحتكاري، باعتبارها محاولة سلكت طريق "الثورة من فوق"، وقادتها الدولة، التي اضطلعت بدور التصنيع، ولكن مع امتصاص ريع عقاري مرتفع لمصلحة الطبقة الحاكمة، التي أصبحت مصدرة للمنتجات الزراعية، وورطت البلاد في نظام تبعية وتبادل غير متكافئ على حساب التراكم الداخلي، على نقيض محاولة اليابان في التحديث التي قادها ميجي، والتي اتبع فيها الطريقة البروسية، أي طريق التطور الرأسمالي اليونكرزي، حيث أن بعد اليابان الجغرافي عن المركز الرأسمالي الأوروبي، جعلها بعيدة عن المطامع الأوروبية المبكرة، في الوقت الذي كانت فيه تشكيلتها الاجتماعية تمكنها أيضاً من تفريخ رأسمالية محلية من الداخل.
هل كان ممكناً أن يكتب النجاح للانبعاث الذي قام به محمد علي، ولإقامة دولة حديثة في مصر في ظل ضآلة الجسم السياسي في مصر، من غير المماليك والأتراك، من دون أن تكون هذه النهضة، ونقطة انطلاقها، هي الثورة الديمقراطية البرجوازية، التي تشكل المحتوى المنطقي لـ "الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية" وتأسيس المجتمع المدني الحديث، بالشكل الذي يجعل الحركة البرجوازية العربية حتمية تاريخية؟
لقد فتح محمد علي إمكانيات النهضة في مصر بقوة الدولة، ومهد لظهور ما يسمى حركة النهضة العربية ممثله بالنهضة الفكرية ـ السياسية، التي من أبرز قادتها رفاعة الطهطاوي، خير الدين التونسي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده. وكانت السمة العامة لإصلاحات محمد علي من القوة والعظمة ما جعلت لوتسكي يشبهها بإصلاحات بطرس الأول، باعتبارها إصلاحات تحمل طابعاً تقدمياً بالرغم من أنها كانت عبئاً ثقيلاً على عاتق جماهير الشغيلة المصرية، المستغلة بلا رحمة من قبل الدولة الإقطاعية، وكبطرس الأول، لم يقض محمد علي على نمط الإنتاج الاقطاعي، إلا أنه قضى على مخلفات القرون الوسطى الأكثر رجعية، وعمل في الوقت ذاته، على تعزيز دولة الملاكين والتجار، وأنشأ جيشاً وأسطولاً قوياً وجهاز دولة قوياً، وقام بعدد من الاصلاحات التي جعلت من مصر دولة مكينة ذات قوة حيوية.
يقول الكاتب عادل اللطيفي: "بالرغم من أهمية التحولات التحديثية التي شهدتها مصر في عهد محمد علي إلا أنها احتفظت بنقطتين هما الصبغة العسكرية وذلك على حساب الطابع المدني للدولة، ثم النظرة الإمبراطورية التوسعية على حساب المعطى الترابي الإقليمي. وهي ربما نفس العناصر التي تم استرجاعها بعد 1952 بصعود الضباط الأحرار إلى الحكم مع تحول التوسع المجالي إلى البحث عن بسط التأثير السياسي على المحيط العربي و الإقليمي "(ص 98 من الكتاب).
إن سؤال النهضة سؤال محلي ارتبط بمشروع سياسي يصل مصر بالمشرق العربي، في سيرورة بناء دولة مركزية شرقية قوية ومتأوربة تطمح إلى الاستقلال الكامل عن السلطنة العثمانية المتزعزعة والمحتضرة،
لذا يمكن القول أن سؤال النهضة انطلق من شعور الحاجة إلى التقدم. وهنا تقبع أهمية هذا المنطلق. علماً بأن مفهوم التقدم عند مفكري النهضة العربية لم ينتقل إليهم ابتداء من فلاسفة عصر التنوير الأوروبيين من أمثال: فولتير وكوندورسيه ومونتسكيو وغيرهم، وإنما جاءهم من مصدرين أساسيين لم تكن أفكار التنويريين إلا رافداً ثالثاً لهما.
أما المصدر الأول فهو وعيهم للهوة التي باتت تفصل عالم العرب والشرق والاسلام عن عالم الغرب الذي لاحظوا أنه يحث الخطى بثبات واطراد في طريق الرقي والتقدم والتمدن. وأما المصدر الثاني، فهو قراءتهم لابن خلدون التي تحتل فيها مشكلة أفول العمران أي التقهقر الحضاري، المرتبة الأولى.
إن سؤال النهضة سؤال محلي ارتبط بمشروع سياسي يصل مصر بالمشرق العربي، في سيرورة بناء دولة مركزية شرقية قوية ومتأوربة تطمح إلى الاستقلال الكامل عن السلطنة العثمانية المتزعزعة والمحتضرة، وهذا ما أرهب السلطان العثماني والغرب الأوروبي في آن معاً، حول خطورة هذا المشروع السياسي، الذي يعمل لتحقيقه نظام محمد علي المركزي.
ويلاحظ هنا وقوف أوروبا الغربية الحديثة بقيمها العقلانية والديمقراطية، والحاملة لرسالتها الكونية، رسالة الديمقراطية المسماة بالليبرالية وذات النزعة الفردية ضد مشروع نهضوي تحديثي عقلاني في مصر وسوريا بزعامة الحاكم المستنير، وتحالفها مع قوة تقليدية متخلفة ممثلة بالسلطان العثماني، مجافية لكل مبادئ الديمقراطية الليبرالية.
وهذا يعني أن أوروبا لم تكن أمينة لقيم ومثل الثورة الديمقراطية البرجوازية المتناقضة جذرياً مع الدولة الاقطاعية وكل مخلفات القرون الوسطى، بل هي أمينة لمصالحها الاقصادية والاستراتجية الجيو ـ سياسية. وهذه المداورة الانتقائية للديمقراطية الليبرالية، ولمفهوم حقوق الإنسان، أصبحت سياسة متأصلة عند الغرب.
من الدولة الوطنية إلى الثورة
تنطلق رؤية الكاتب عادل اللطيفي من تحليل طبيعة الدولة الوطنية العربية التي نشأت في سياق تشكلها التاريخي عقب الاجتياح الاستعماري الغربي، وما استتبعه من إعادة رسم التوازنات الدولية الناشئة بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وتقسيم المنطقة العربية جغرافياً وسياسياً، وخصائصها، تختلف عن السيرورات التاريخية لتبلور الدولة البرجوازية في المجتمعات الصناعية الغربية ـ الدولة الأمة، حيث أن هذا الاختلاف الواضح بين نمط الدولة الوطنية العربية ومثيلتها الغربية، يعود في حقيقته إلى وجود اختلاف جذري على مستوى النشأة التاريخية، ومصادر المشروعية، ومدونة الاصطلاح السياسي.
الدولة العربية الحديثة، لا تعبر عن الدولة ـ الأمة كنموذج غربي بأي معنى من المعاني، سواء منها القطرية التي اختزلت مفهوم الأمة في حدودها القطرية الموروثة من الاستعمار الأوروبي، أو القومية الحديثة التي عبرت عن دائرة انتماء أوسع، وحاولت ربط العرب بإيديولوجية قومية علمانية، ترتكز على مفهوم الوطن الواحد. كما أن هذه الدولة العربية ليست متحداً سياسياً فيه إجماع من قبل الشعب على شرعية النظم السياسية الحاكمة، التي يسيطر عليها حكام ذاتيين متقلبين، وتتسم بانتشار الفساد الواضح على صعيد أعضاء الحكومة والمؤسسات والبيروقراطية الحزبية والبوليسية، وبالانتهاك الصارخ والاعتباطي لحقوق المواطنين وحرياتهم.
مثّلت قوة الحاكم وما تتطلبّه من إنشاء كاريزما حول شخصه، أيسر وسيلة لإنشاء مؤسسة حكم فعالة في ظل حداثة العهد بالدولة بما هي تنظيم
على الرغم من حدوث الاستقلال السياسي في معظم العالم العربي منذ أواسط القرن العشرين، فإِنَّ عملية انبثاق الدولة الوطنية العربية قد نمت ضمن سيرورة "العصرنة السياسية" التي أدخلتها الامبريالية الأوروبية إلى العديد من البلدان العربية، كالتمدن والتصنيع، وتطبيق نوعاً من الديمقراطية البرلمانية، والنظام البيروقراطي الحديث، والتعليم الحديث، ومشاركة وسائل الإعلام، واستبدال عدد كبير من السلطات السياسية التقليدية والدينية والعائلية بسلطة سياسية "وطنية" علمانية، وضمن البنية وعلاقات التبعية البنيوية للإمبريالية التي يتصف بها المجتمع العربي بشكله "الحديث" الذي يتألف من ثلاث طبقات متميزة على حد قول الدكتور هشام شرابي: "الجماهير الفقيرة ( ومعظمها ريفي) والبرجوازية الصغيرة (التي تسكن المدن)، والبرجوازية الحاكمة التي تمتلك في يدها كل السلطة وكل الثروة الوطنية تقريباً. وقد تم الاستقلال الوطني (بالأحرى التبعية) ونشأة نظام الدولة المعاصرة في العالم العربي، بقيادة هذه البرجوازية (البطركية الحديثة)، وفي ظل أفكارها وأهدافها وهي الطبقة التي تمثل النتاج الاجتماعي المباشر والأكمل لعصر الامبريالية.
مع حصول الدول العربية على الاستقلال السياسي، انقسم الوطن العربي إل فئتين من الدول، فئة الدول الحديثة العهد التي اختارت "الطريق الراسمالي للتطور" وحافظت على التقسيم الدولي للعمل في إطار النظام الرأسمالي العالمي، ولكن من دون أن تتبلور فيها قوى برجوازية، قادرة على تحقيق السيطرة الوطنية على عملية التراكم البدائي لرأس المال. وهذه الدول تتمثل بالمملكة العربية السعودية، وإمارات الخليج، وعمان والأردن وتونس ومراكش ولبنان، قد ربطت مصيرها بمصير الرأسمالية العالمية ككل، لأنها ليست بدول برجوازية وطنية.
العسكر الذي خاض اللعبة السياسية، واكتسب الشرعية، أصبح عائقاً رئيسياً أمام قيام مؤسسات سياسية جديدة،
أما الفئة الثانية، فهي الدول العربية التي قامت فيها انقلابات عسكرية ضد أشكال الحكم التقليدية، ولعبت فيها الطبقة المتوسطة دوراً رئيسياً، مثل مصر وليبيا والعراق وسوريا والجزائر واليمن واستولى الجيش في هذه الدول على السلطة، حيث كانت خلفيته الاجتماعية من أصول ريفية، وضباطه من أبناء الطبقة المتوسطة.
واتخذت الحكومات التي شكلتها الانقلابات العسكرية اجراءات لاستصلاح الأراضي، والقيام بإصلاح زراعي لاستقطاب العناصر الأكثر عدداً وقوة في الريف وبناء القاعدة الاجتماعية، وانتهجت سياسة جديدة، فضربت العلاقات مع الامبريالية، وأنشأت علاقات صداقة مع الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية سابقاً، وضربت الاقطاع والكمبرادور، وأنشأت القطاع العام. ولكن هذه النظم التي نصب فيها الجيش نفسه حكماً على القيم الوطنية والقومية، واعتنق مبدأ الوطنية، واستمد شرعيته انطلاقاً من الوعود التي قدمها للمستقبل، ومن تبنيه للعصرنة السياسية، لم تستطع أن تبني مؤسسات سياسية ثابتة، وأن تطور بنية سياسية توطد أسس مبدأ شرعي مايتعلق بالمشاركة السياسية للشعب.
وهكذا، فشلت هذه الدول في إقامة علاقات صحيحة مع الجماهير الشعبية، وانتهجت سياسات غير ديمقراطية بمجلمها لأن العسكر الذي خاض اللعبة السياسية، واكتسب الشرعية، أصبح عائقاً رئيسياً أمام قيام مؤسسات سياسية جديدة، بسبب مواقف العسكريين الذاتية من السياسة ومن أنفسهم، ونفورهم من النشاط السياسي بصورة عامة، ومن الأحزاب بصورة خاصة (في ليبيا والجزائر)، وشعورهم بأنهم في حالة صراع بين أولوياتهم وتقويماتهم الذاتية، وبين الاحتياجات الموضوعية لبناء مؤسسات سياسية قادرة على القيام بمهمات العصرنة السياسية لمجتمعاتهم.
يقول الكاتب عادل اللطيفي في هذا الصدد: "بغض النظر عن هذه الاختلافات بين الدول والأنظمة، فإنّ التركيز على إقامة الإكراه أو تدعيمه قد أفرز نتيجتين أساسيتين: قوة الحاكم (أي قوة السياسة بمعنى السلطة) على حساب الدولة (أي الإدارة والتنظيم ) من ناحية، ثمّ التباعد بين المجتمع والدولة من ناحية ثانية. لقد مثّلت قوة الحاكم وما تتطلبّه من إنشاء كاريزما حول شخصه، أيسر وسيلة لإنشاء مؤسسة حكم فعالة في ظل حداثة العهد بالدولة بما هي تنظيم، أي بما هي إدارة ومؤسسات وقوانين وثقافة عليا. إِنَّها دولة القوة وليست دولة قوّية. هكذا احتكر بناء الحكم الوقت والإمكانات المتاحة وذلك على حساب بناء الدولة" (ص 213 من الكتاب).
إقرأ أيضا: الدولة القومية في الغرب انبنت على فكرة الأمة
إقرأ أيضا: الدولة العربية سجينة الموروث في الفكر السياسي الإسلامي