لا يزال موضوع الحريات في إطار الدولة موضوع نقاش كبير في أوساط الإسلاميين، فالمراجعات الأولى التي حاول من خلالها عدد من رموزهم التأصيل لقضايا الحريات السياسية والمدنية، لم تحل المشكلة في الجوهر، وإنما قصارى ما أحدثته أنها أسهمت في تحقيق نوع من التكيف مع مخرجات الفكر السياسي الغربي، وساعدها ذلك في رفع الحرج عن كثير من التصورات التي واجهت انتقادات كثيرة من قبل خصومهم، سواء تعلق الأمر بحرية المعتقد أو التعددية السياسية أو المدنية أو حقوق المرأة أو حقوق الأقليات.
كما أن الاجتهاد الذي حاول طي جزء كبير من صفحات الأدب السلطاني وبعض كتب السياسة الشرعية، لاسيما ما يخص شرعية الحاكم، وموقع العلماء في السلم التشريعي، فضلا عن مفهوم الذمة، وغيره، لم تفعل أكثر من أنها سمحت للإسلاميين بالعبور الآمن إلى دائرة المشاركة السياسية، والتفاعل الإيجابي مع مختلف الفرقاء السياسيين، لكن الإشكال زاد تعمقا، لما بدأت تطرح قضايا الحريات من موقع الدولة، أو من موقع المسؤولية في مربع الحكم، وأي تصور يحمله الإسلاميون في التعاطي مع قضايا الحريات الفردية، وإشكال تعاطي المجتمع معها، إذ اتضح عندها البون الشاسع بين الأدبيات والمراجعات التي تم تدشينها وبين الحال الذي تتصرف به الدولة الحديثة مع حريات الأفراد داخل المجتمع.
ويرجع سبب ذلك إلى البعد المرجعي في تصور الإسلاميين، والذي يحكم من الناحية الدينية على جملة من التصرفات بمخالفتها للشريعة، وهل يسوغ للذي يوجد في مربع السلطة أن يقبل بحرية الأشخاص في ممارسة أفعال حكم الشرع بحكمتها وطالب بمناهضتها وأوجب بخصوصها عقوبات حدية أو تعزيرية.
ومع الاجتهادات الكثيرة والمتناسلة التي تناولت قضية الحدود وسياقها وشروطها ومقاصدها، فإنها لم تزح عن الذهن إلا مسألة إيقاع العقوبة الجنائية، ولم تخلص لتصور حاسم لقضايا الحريات من موقع الدولة، يجنح إليه الإسلاميون دون أن يكونوا في تناقض مع مقتضى منطلقاتهم المرجعية.
الدكتور أحمد الريسوني يكتسح الألغام في مجال الحريات
لا بد من الإقرار أن حظ الإسلاميين في المغرب كان وافرا، فقد استقبلوا مراجعات غيرهم في مجال الحريات قبل أن يتورطوا في إنتاج أدبيات تعادي هذه الحريات أو تجر وراءها أجزاء كثيرة من مصاحبات التراث السياسي السلطاني، فقد تبنوا اجتهادات الشيخ القرضاوي والشيخ محمد الغزالي والدكتور سليم العوا وراشد الغنوشي وحسن الترابي وفهمي هويدي وعبد الحليم أبو شقة، وفضلا عن ذلك، قام الدكتور أحمد الريسوني المعروف بخلفيته المقاصدية والفقهية الواسعة بجهود كبيرة في تجسير العلاقة مع قضايا الحريات، فكتب ينتصر للديمقراطية في كتابه "الشورى في معركة البناء"، الذي أكد فيه على شمول الشورى للأمور الدينية والدنيوية والفردية والجماعية، ومفصلا بشكل غير مسبوق في مقاصد الشورى وفوائدها، متجاوزا بذلك الكتابات التي اعتادت حصر مقاصد الشورى في استخراج الرأي الصواب، بحيث نوّع من هذه المقاصد، وأوصلها إلى عشرة مقاصد، فتحدث عن مقصد منع الاستبداد والطغيان، وكذا إشاعة جو الحرية والمبادرة وتنمية القدرة على التفكير والتدبير، وقدم إجابات عن بعض الأسئلة الشائكة المتعلقة بالشورى في الشؤون العامة من قبيل: لمن الشورى؟ ومن هم المعنيون بها؟ ومن المخاطبون بها؟
وتناول في هذا الكتاب موضوع المرأة والشورى، معتبرا أن أصل العموم هو الحاكم في هذا الموضوع، وأن الرجل والمرأة في الشورى سواء، وأن موقع المرأة في خطاب الشورى لا يختلف في شيء عن خطاب الرجال. وناقش فيه أيضا قضية ولاية المرأة العامة، وانتهى إلى نفي أي سند علمي عن الذين يعترضون على ولاتها العامة.
وكان مما لاحظه الريسوني بهذا الصدد أن الدولة الإسلامية في مسارها التاريخي طورت العديد من المؤسسات والأنظمة في كافة مرافق الحياة إلا أن حظ الشورى لم ينل نفس التنظيم والضبط، إذ لم تحرص التجارب الحاكمة داخل الدولة الإسلامية عبر مسارها الطويل على وضع آليات لتنظيم الشورى وضبطها مما أدى إلى ضمورها وتعطيلها.
وكان من أهم ما التفت إليه الدكتور الريسوني هو ضرورة استدراك الثغرة الخطيرة التي كانت برأيه سببا في غياب الشورى وتعطيلها، وهي الفراغ التنظيمي الذي لا يترك مجالا لمأسسة الممارسة الشورية وضبطها، اقترح الاستعانة لبناء الممارسة الشورية بأربعة أصول وقواعد تشريعية يمكن استلهامها بسعتها وشمولها لكافة القضايا الاجتهادية المتعلقة بالتطورات والمستجدات، ويتعلق الأمر بـ:
ـ تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور، سد الذرائع، المصالح المرسلة، الاقتباس من الغير لما فيه مصلحة وخير.
وحاول الريسوني أن يركز على القاعدة الرابعة ليخلص منها إلى ضرورة بناء الإطار التنظيمي للشورى، ووضع الشورى في السكة، وضرورة الاعتماد على النظم الديمقراطية الغربية الحديثة والاقتباس منها ومن تجاربها وأساليبها. وبيّن مشروعية ذلك ومدى الحاجة إليه، ومن طريف ما ساقه الريسوني في كتابه حاجة الديمقراطية إلى الأمة الإسلامية لمعالجة بعض آفاتها البنيوية وأدوائها الجوهرية.
وحرر الريسوني بحثا فقيها دقيقا في قضية حد الردة، وساير ما انتهى إليه الدكتور طه جابر العلواني في اعتبار كلية وقطعية آية "لا إكراه في الدين" البقرة: 256 "معتبرا أن الدين لا يكون ـ ولا يمكن أن يكون ـ بالإكراه.. وأن الدين والإكراه لا يمكن اجتماعهما، فمتى ثبت الإكراه بطل الدين". واعتبر أن قضية "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" هي قضية كلية محكمة، عامة تامة، سارية على أول الزمان وآخره، سارية على المشرك والكتابي، سارية على الرجال والنساء، سارية قبل الدخول في الإسلام، وتأول النصوص التي تقرر الحد بالنسبة للمرتد على خيانة الأمة والخروج العسكري عليها والتخابر مع العدو تماما كما هو مذهب الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور طه جابر العلواني.
وانتصر الشيخ الريسوني في أطروحته التقريب والتغليب لفكرة حكم الأغلبية العددية، وانتقد بشدة مقولة أن الحق يكون مع الواحد، معللا ذلك بعدم وجود ضابط يلجأ إليه للترجيح في حال الخلاف وأن العدد والأكثرية ضابط معمول به في قواعد الشرع، مؤصلا لذلك للديمقراطية في شكلها الأداتي، كما انتصر في بحث آخر لقضايا الفنون والتعبيرات الفنية، وذهب بعيدا في قضايا الحريات الفردية محاولا ما أمكن نزع يد السلطة عن التحكم في رقاب الناس واستغلال بعض مواد القوانين الجنائية وتعملها الانتقائي للانتقام من معارضيها ومخاليفها.
منطلقات الإسلاميين المغاربة في التعاطي مع قضايا الحريات الفردية من موقع الدولة
حاول الإسلاميون المغاربة على وجه الخصوص أن يؤصلوا لجملة مبادئ انطلقوا منها لمقاربة موقفهم من الحريات من موقع الدولة أو موقع مشاركتهم في مربع الحكم، ويمكن بهذا الخصوص أن نتحدث عن ثلاث مبادئ أساسية:
المبدأ الأول: التمييز بين أدوات الدعوة وأدوات السياسة:
منذ البدء، حاولت الحركة الإسلامية المغربية المشاركة في مربع الحكم أن تؤسس لتمييز مفصلي بين قضايا الدعوة وبين قضايا السياسية، وبين آليات الدعوة وآليات السياسة، وأيضا بين وظائف الدعوة ووظائف السياسة، بل حاولت أن تقيم تمايزا واضحا بينهما حتى على مستوى الخطاب، فمجال السياسة هو الشأن العام، ووظيفتها إصلاحه، وآلياته المشاركة السياسية، ووسائله العمل من خلال المؤسسات والانضباط لقوانينها وقاعدة العلبة المؤطرة، وفي مقدمتها أن القوانين لا تعتمد إلا بعد إقرارها برلمانيا، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال فرض قناعة ما على المجتمع من خارج هذه القواعد، في حين، مجال الدعوة ديني، ووظيفتها دعوة الناس وحملهم على إقامة الدين والعمل على ذلك على مستويات الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والاشتغال على تقويم أعطاب هذا التدين وترشيده.
وكان من نتيجة هذا التمييز أن تمت إناطة قضايا القيم والآداب وما يرتبط بالحريات الفردية لمجال الدعوة الواسع، حيث يتكلف خطابها الدعوي والوعظي بإقناع الناس وحملهم على أوامر الشرع وبيان مقاصدها وآثارها على الافراد والأسرة والمجتمع، بينما يناط بالسياسة العمل على إزالة الشروط الاجتماعية والاقتصادية التي تشجع على إشاعة الظواهر التي تتصادم مع المرجعية الإسلامية، فإذا كانت وظيفة الداعية أن ينتج الخطاب الذي يذكر بأهمية العفة وحرمة الزنا والعلاقات الجنسية خارج الزواج ويذكر بحرمة الخمر ووعيد الله على المخالفين، فإن وظيفة السياسي أن يعمل على تشجيع الشباب على ولوج سوق الشغل وتوفير فرص الشغل التي تعينهم على الزواج وبناء أسرة تساعده على العفة، كما أن مهمة السياسة، تنصرف لإشاعة جو الحرية للجميع، لتشجيع جو النقاش العمومي، وحفز الدينامية المجتمعية، لتقوم بدورها بدلا عن دور السلطة، وتحميل الدعاة والمثقفين والمفكرين مسؤوليتهم في تحصين منظومة القيم والدفاع عنها.
وبناء عل هذا التمييز تمايز عمل الحركة وعمل الحزب في عقل الإسلاميين وتصورهم، ومن ثم، فليس من وظيفة الحزب تغيير قناعات الأفراد التربوية والفكرية بأدوات السلطة، أي بالسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، فإن أي حزب يلجأ إلى هذا الخيار سيكون مآله الفشل، لأن قضية القناعات والاختيارات القيمية والأخلاقية إنما تنشأ بفعل تراكم في العملية التربوية والتنشئة الفكرية والثقافية، والقرارات الحكومية في أحسن أحوالها لا تكون إلا عاملا مشجعا ومساعدا، فلو أخذنا مثلا قضية العري في الشواطئ، فإن أي حركة إسلامية اختارت أن تمنع ذلك بأدوات السلطة، فإنها ستجعل من نفسها خصيما للشعب حتى وهي تعتقد أنها على حق وأن العري في الشواطئ يتناقض مع مرجعيتها الإسلامية، لأن دورها ـ كحركة دعوية لا كحزب سياسي ـ هي أن تدفع هذا الشعب بنفس الأدوات التربوية والثقافية والقيمية إلى الالتزام بقيم الحشمة والحياء في تفاعله مع وسائل المتعة والاستجمام.
وضمن هذه الرؤية، تعتبر الحركة الإسلامية المشاركة في المغرب، أن الحزب ليس معنيا بهذه المهمة، وإنما هو معني بتوفير البيئة النظيفة للاستجمام، والبنية التحتية اللازمة، والخدمات الضرورية وفي مقدمتها الصحية، ليمارس الأفراد حقهم في الاستجمام في ظروف صحية ومريحة في إطار القانون المؤطر للفضاء العام.
أما قضية الإقناع بالامتناع عن العري في الشواطئ فمسألة تربوية ثقافية تتعلق بالقناعات، وللحركة الدعوية أن تقوم بكل ما تملك من حملات دعوية وأنشطة تربوية من أجل التقليل من هذه الظاهرة في سياق التدافع الثقافي الذي يتيحه النقاش الديمقراطي. فليس من مهمة الحزب السياسي فرض الأحكام على الأفراد، وإنما دورها إشاعة أجواء الحرية التي تسمح للدعاة والوعاظ والعلماء والخطباء والمفكرون أن يقوموا بدورهم التربوي في هذا الاتجاه.
المبدأ الثاني ـ التمييز بين منطق السياسات العمومية، ومنطق الأحكام الشرعية:
وقد نتج عن هذا التمييز في عقل الإسلاميين وتصورهم أن تبني الحركة الإسلامية لقناعات شرعية بشأن بعض القضايا مثل حرمة الربا والخمر، لا يعني هذا ضرورة أن أول ما ستقوم به في حكمها أن تستأصل هذه الظواهر من المجتمع، إذ المطلوب منها التعاطي مع هذه القضايا من زاوية السياسات العمومية، أي أنها يمكن أن تعمل مثلا على فتح صيغ لا ربوية تتمتع بنفس الامتيازات القانونية التي تتمتع بها الصيغ الربوية التقليدية، وتترك للشعب حرية ممارسة اختياره لهذه الصيغ، وتعمل على خلق منافسة بين الصيغتين، ويمكن أيضا أن تسن تشريعات كأن تفرض ضرائب إضافية على الخمر وتعلل لذلك بحجم الأضرار التي يتسبب فيها شرب الكحول في ارتفاع نسب الحوادث والجرائم والطلاق وتفكك الأسرة وما يترتب عن ذلك من تكليف ميزانية الدولة كلفة كبيرة تضاعف الموارد الضريبية المحصلة منه، وهو التعاطي الذي لجأت إليه الحركة الإسلامية المشاركة في مربع الحكم لتجنب السقوط في منطق التحريم الديني.
وقد انتبه الإسلاميون المغاربة من موقع مشاركتهم في مربع الحكم إلى وجود بون شايع بين المنطقين، فمنطق التحريم وفرض الأحكام على الجمهور يلغي الآليات الديمقراطية، ويلغي قواعد التدافع السلمي ويلغي الآخر باعتباره مكونا يحتفظ بآرائه ورؤاه ونظرته إلى المشروع المجتمعي، بينما المنطق الثاني، يعتمد الآليات الديمقراطية ويستثمر ما تتيحه مساحة الحرية في التدافع الفكري والسياسي والتمكين بذلك للرؤية المجتمعية التي يحملها الحزب الذي استطاع أن يضمن أكبر قدر مكن المشروعية الاجتماعية بما لا يتعارض مع الأطر العليا المعبر عنها في الدستور.
المبدأ الثالث ـ التمييز بين الفضاء العام والفضاء الخاص:
وهذا يصلح أن يستشهد به أكثر فيما يختص بالحريات الفردية، فالحريات التي تدور في دائرة الخاص، لا يمكن البحث عنها أو المطالبة بتطبيق القانون فيها، بخلاف الفضاء العام، فهو مؤطر أصلا بالقانون، ودور الحركة الإسلامية في أقصى حالاتها أن تسهر على احترام وتفعيل القانون في إطار من المرونة والتدرج.
فالحركة الإسلامية المغربية المشاركة في مربع الحكم، وعت بحكم التراكم الذي حصلته في هذا المجال أن الظواهر القيمية المنتشرة في المجتمع إنما هي ثمرة فعل تربوي وثقافي دام عقودا من الزمن، ولا يمكن تغييرها بقرار أو تشريع قانون، فأقصى ما تملكه الحركة الإسلامية أن تحرص في سياق المرونة على تفعيل القانون في الفضاء العام، وترك الفضاء الخاص لاختيارات الناس الحرة، ومصاحبة ذلك بعمل دعوي نشط تضطلع به الحركة الدعوية وبرامج التربية والتكوين القائمة على المزاوجة بين الأبعاد الثلاثة في العملية التعليمية المعارف والمهارات والقيم.
وبناء على هذه الرؤية، انتبه الإسلاميون المغاربة إلى مخاطر أن يصدر منهم أي منع أو رأي بالمنع في حق الأعمال السينمائية أو الفنية لمجرد مضامينها التي تمس بالمرجعية الإسلامية، فقد اتجهوا بناء على ذلك، خلافا للعديد من المدارس، إلى تحرير السينما من منطق الريع الذي بمقتضاه كان يوجه الدعم بطرق غير ديمقراطية لتشجيع لوبيات متحكمة ومهيمن على القطاع وتفرض أجندة قيمية عليه، بل وتفرض توجهات وموضوعات سينمائية معينة على المخرجين لإجبارهم على الانخراط في معارك سياسية ضد قوى سياسية معينة، واتجه الإسلاميون بدلا عن ذلك إلى محاولة إشاعة قيم الشفافية والنزاهة في تدبير القطاع تقديرا منهم أن هذه الرؤية التدبيرية، ستكون كافية لجعل السينما المغربية تتحرر من تضخم موضوعات العلاقات الجنسية والمثلية التي تهيمن على كثير من التعبيرات الفنية، وترتاد بذلك آفاق أخرى تعكس الانشغالات الحقيقية للمجتمع.
أين المشكلة في انتهاك الحريات الفردية.. في قيم المجتمع أم في تعسف السلطة؟
ومع أن إسلاميي المغرب اجتهدوا أكثر من غيرهم في تأصيل هذه المبادئ الثلاثة للخروج من مأزق الحريات في ظل الدولة الحديثة، إلا أن توالي بعض الأحداث التي تخص تعسف السلطة في تأويل وتوظيف بعض المقتضيات في القانون الجنائي سواء ضد المعارضين أو حتى ضد بعض أعضائها، أظهر الحاجة إلى مزيد من الاجتهاد، في رسم الحدود بين الخاص والعام، بل فجر النقاش من جديد داخل الإسلاميين بين توجه أصبح يساير منطق بعض الحقوقيين الذين يطالبون برفع التجريم عن العلاقات الجنسية الرضائية وعن تعاطي الكحول وذلك برفع يد السلط عن المعارضين ومنع استعملاها لهذه القوانين بشكل انتقائي لتأديب مخالفيها وخصومها، وبين توجه يمثل غالب الإسلاميين، يميل إلى الدفاع عن الفضاء الخاص وإحاطته بالاحترام اللازم وانتقاد تعسف السلطة ومحاولة استهدافها لهذا الفضاء ونقله إلى الفضاء العام، لكن دون التنازل عن مقتضيات القانون الجنائي التي تجرم الإفطار العلني في نهار شهر رمضان، وتجرم العلاقات الجنسية خارج الزواج، وتجرم السكر العلني.
فالأستاذ مصطفى الرميد الذي يمثل في هذا الموضوع الجناح المحافظ، بقي وفيا لمنطقه، ففي الوقت الذي طالب فيه بضرورة البقاء على تجريم هذه الممارسات، انتقد بشدة التلصص على البيوت وتكسير الأبواب واقتحام الفضاء الحميمي للناس، واستهداف حرياتهم الفردية، فيما دعت البرلمانية عن حزب العدالة والتنمية، أمينة ماء العينين، حزبها إلى مراجعة موقفه من القوانين التي تمس الحريات الفردية والحياة الخاصة للأفراد، واستندت إلى قضية هاجر الريسوني للدعوة إلى تكثيف النقاش العمومي حول مقتضيات القانون الجنائي المغربي التي اعتبرتها تشكل مدخلا من مداخل انتهاك الحياة الخاصة للأفراد والتضييق على حرياتهم.
أما الأستاذ عبد الإله بنكيران فقد كان له منطق مختلف تماما، فهو يميز بين التحريم الديني وبين المنع القانوني، فالتحريم مصدره ديني، بينما المنع مصدره الدولة من خلال مؤسساتها التشريعية التي ترى في ذلك بعض المصالح الراجحة أو تحاول به دفع بعض المفاسد، ومن ثمة، فما يلزم في ساحة السياسة ليس المحرم دينيا، وإنما الممنوع بنص القانون، ويميز في ذلك بين ما كان في الفضاء الخاص وما كان في الفضاء العام، فمن أراد أن يفطر في نهار شهر مضان في بيته فهذا أمر يخصه، أما أن يفطر أمام الملأ بشكل علني فذلك يدخل تحت طائلة المنع القانوني الذي قررته الدولة في قوانينها، ويورد ابن كيران مثالا توضيحيا، فيقول إن الخمر لم تنقطع على مر التاريخ الإسلامي وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت أنه طبق الحد على شارب الخمر، وأن المقيم العام الفرنسي ليوطي هو الذي قرر عدم بيع الخمر للمسلمين في المغرب لمصلحة، وأن قانون الدولة لحد الآن يتبنى ذلك، لكنه في المقابل، انتقد بشدة سلوك السلطة في تعاطيها مع قضية هاجر الريسوني، معتبرا أن العلاقات الجنسية خارج الزواج تثبت في الإسلام بشروط جد صارمة لا تحقق في حالة هاجر الريسوني، وأنه لا يمكن التفتيش في الأرحام فثبات ذلك لأنه مخالف لجوهر القانون وظاهره ومقصده.
أما الدكتور الريسوني، فقد كان رايه أكثر مسايرة لمنطق الحقوقيين، إذ لم ير أي موجب لبسط يد السلطة على المفطرين في نهار شهر رمضان، فقال في ندوة نظمت نظمت بجامعة محمد بنخليفة في قطر تحت عنوان "الشريعة والحرية في أزمنة التغيير": هذه من الحالات التي أجد نفسي فيها مع المطالبين بإلغاء الفصل 222 المجرم للإفطار العلني في رمضان وإن كانت نيتهم غير نيتي وقصدهم غير قصدي. وقد علل الأمر بالأعذار التي وضعها الشارع للترخيص بالإفطار وأن حالة الإطار يجب أن تحمل عليها، ولا يجوز للسلطة أن تدخل هذا الباب.
الربيع العربي وسؤال الإصلاح الدستوري عند إسلاميي المغرب
مفهوم الدولة من منهجية التجاوز النقدي إلى التكيف الدستوري
يوم يحتفي المغرب الرسمي ببُنَاة البشر قبل الحجر!