يواصل الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، عرض مسار التيار السلفي في المغرب، وأهم المنعطفات الفكرية والسياسية التي عاشها.
بدايات الفرز في الجسم السلفي ومحطات التوتر
لم يسلم التيار السلفي في المغرب من مواجهة تحديات غير مسبوقة شكلت محطات توتر لأطيافه ومكوناته، وأثمر التفاعل معها حدوث فرز وانقسام في الرأي داخل جسمها. ويمكن في هذا الصدد أن نستقرئ أربع محطات توتر أثرت بشكل كبير على الفكر السلفي، وساهمت في تبلور بعض تحولاته:
1 ـ المحطة الأولى: وتتعلق بأحداث الجزائر عقب الانقلاب العسكري الذي أنهى المسار الديمقراطي وأنهى حلم جبهة الإنقاذ الإسلامي في حكم البلاد بعد فوزها الكاسح في الدورة الأولى في انتخابات 1991، وقد شكل هذا الحدث أولى تحولات الجسم السلفي المغربي، إذ طرحت لدى بعض رموزه وشيوخه فكرة نصرة المكونات الجهادية في الجزائر ضد السلطة التي انقلبت على الخيار الإسلامي. على الجسم السلفي، وقد كان الحدث مناسبة لظهور بعض رموز السلفية في مدينة فاس وطنجة.
2 ـ المحطة الثانية: وتتعلق بأحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وما نتج عنه من الموقف من تنظيم القاعدة الذي تبنى الهجوم، والامتدادات الإقليمية للحالة الجهادية، إذ نتج عن هذه الأحداث حدوث تحولات مهمة في الجسم السلفي لفائدة ظهور تعبيرات داعمة للفكرة الجهادية ومتأثرة بخطاب تنظيم القاعدة الذي يركز على قضية تحرير بلاد الحرمين من الكفار، وفكرة جهاد الاستكبار العالمي.
وضمن السياق نفسه، شكلت عودة الأفغان العرب من أصول مغربية تحديا آخر، أعاد من جديد طرح سؤال موقع الجهاد في أطروحته، وهو ما ساهم في بروز مشايخ جديدة (الشيوخ الثلاثة، ويتعلق الأمر بكل من الفزازي، وأبو حفص، والكتاني) نسب إليها قيادة ما يسمى بـ "السلفية الجهادية"، إذ تم وضع بعض مواقفها في دائرة التركيز الإعلامي، وحملوا مسؤولية أحداث 16 أيار (مايو) 2003.
3 ـ المحطة الثالثة، وتتعلق بحدث استهداف العمق الاستراتيجي للسلفية العلمية عبر إغلاق دور القرآن، وما ترتب عنه من تحولات مست الجسم السلفي، إذ دفعته مظلوميته إلى محاولة البحث عن موقع للمسألة الحقوقية في أطروحته، مما طرح ضرورة مراجعة الموقف من الجمعيات والمنظمات الحقوقية وكذا التنظيمات السياسية ومحاولة تجسير العلاقة معها لتقوية مرافعتها الحقوقية ورفع المظلمة عنها.
4 ـ المحطة الرابعة، وتتعلق بأحداث الربيع العربي، وآثار رياح الثورات العربية، وما ترتب عنه خلخلة كبيرة لأطروحة التيار السلفي، ودفعه لخوض تجربة الاندماج السياسي باعتبار ذلك مدخلا لرفع المظلومية عليه من جهة، وفتح المجال لمساهمته وقوته الاقتراحية في النسق السياسي، إذ دفعت محطة الربيع العربي الجسم السلفي في المغرب إلى اختبار أطروحته السياسية، ووضع موقفه من الديمقراطية والمشاركة السياسية ومن مكونات الفعل السياسي والمدني، ومن الحركات الإسلامية في لائحة أولويات المراجعة الفكرية والسياسية.
وبالجملة، هذه المحطات الأربع المتوترة، بقدر ما أحدثت فرزا واضحا داخل مكونات الجسم السلفي المغربي، بقدر ما ساعدته في إعادة صياغة موقفه من البيئة السياسية ومكوناتها، ومن الديمقراطية والمشاركة السياسية، ومن ثمة إعادة صياغة الجواب السلفي بخصوص موقفه من الإصلاح وتموقعه من الدولة والقوى السياسية، وتحوله في اتجاه البحث عن خيارات الاندماج السياسي، كما ساعد الحساسية الجهادية داخل هذا التيار على إعادة قراءة الموقف من جديد، وتدشين مراجعات مهمة تقطع مع العنف، وتؤسس للاندماج في النسق المجتمعي والسياسي.
تحولات سلفية في اتجاهات ثلاث
أثمرت محطات التوتر الأربعة حصول تحولات متزامنة داخل الجسم السلفي، مست أطيافه العلمية والجهادية معا، واتجهت في مجموعها في مسار الاندماج المجتمعي أو السياسي، وإن اختلفت في المضمون والشكل.
1 ـ الاتجاه الأول، حاول أن يتحرر من الإرث السلفي الرفضي، الذي برر عزلة هذا التيار في المجتمع، وهامشيته في السياسة، فاتجه أولا إلى إعادة صياغة موقفه من الديمقراطية ومن مكونات البيئة السياسية والمدنية، محاولا ما أمكن التقليل من مخاطر الجذور الفلسفية العلمانية للديمقراطية، ومتجها نحو التعريف الوظيفي الأداتي للديمقراطية باعتبارها وسيلة لا يوجد نظيرها في تحقيق العدل والشورى والكراكة والحرية، إذ تزعم هذه المراجعات الشيخ الفزازي، الذي استند إلى "إسلامية الدولة" في الدستور المغربي، للجواب عن محاذير التيار السلفي بشأن إمكانية أن يؤدي الديمقراطية إلى إقرار ما يخالف الشرع.
لم تنجح المكونات السلفية في الاستئناس بالبيئة السياسية ومكوناتها وقواعد اشتغالها، كما فشل رموزها في الجواب عن تحدي تمثيل الأتباع وتأطيرهم السياسي
إقرأ أيضا: أهم التحولات الفكرية للتيارات السلفية في المغرب (1 من 2)
أهم التحولات الفكرية للتيارات السلفية في المغرب (1 من 2)
المغرب.. فتوى للريسوني تثير الجدل حول الفوائد البنكية والربا
إسلاميو المغرب ومأزق الحريات في الدولة الحديثة.. اجتهادات