في زمن من الأزمنة القديمة
تعرضت مصر والجزيرة العربية لمحنة شديدة ظهرت قبل حدوثها في رؤيا للملك.. سبع
بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات.. يحتار الملك في رؤياه،
ورؤيا الملوك حق، ليجعل تأويلها وحل الإشكالية كلها عند رجل خلف القضبان تم سجنه ظلما
لسنوات حتى تم نسيانه خلفها؛ يشاركه الزنزانة رجلان يتلمسا فيه حسن الخلق والصدق
وتأويل الرؤى بحق.
والتأويل هو موهبة وعلم
أتقنه يوسف عليه السلام، علم تميز به في وقت الحاجة إليه.. خرج الرجلان فيثبت صدق
تأويله. فأما أحدهما فيُقتل، وأما الآخر فيسقي ربه خمرا، أي أنه كان خادما لدى
الملك، يسمع رؤيا سيده ويتابع المفسرين الذين يعلنون عجزهم عن تأويلها وفشلهم في
فهمها، فيتذكر يوسف الصديق المظلوم، والزنزانة المظلمة، والسجن والقهر، فيدلهم
عليه.. الأمر أكبر من التكبر على اللجوء لمعتقل مظلوم..
ويأمر الملك بعرض الرؤيا
علي السجين، ويهرع المظلوم لتأويل الرؤيا دون فرض شروط بإخلاء سبيله، كشأن كل صاحب
رسالة يحمل الخير لكل الناس دون قيد أو شرط. إنها سبع سنوات خضر، يفيض النيل،
ويكثر الحصاد، ثم تتبعها سبع سنوات عجاف، ينضب الماء، وينعدم الزرع. لا يتوقف على
التأويل والشرح المستفيض، بل يطرح الحل الناجع لتمر مصر والجزيرة العربية كلها
بسلام بعد تلك السنوات السبع، باستهلاك جزء من الثمار والحصاد، وادخار جزء يكفي
لاستهلاك سبع سنوات، ثم جزء لإعادة زراعته من جديد في العام الذي سيغاث فيه الناس
بعد انتهاء أيام الشدة.
لم يأبَ الملك الوطني أن
يتواصل مع السجين، ولم يرفض السجين الوطني أن يقدم كافة خبراته وعلمه ومساعدته
وجهده لإنقاذ البلاد والتعاون مع الملك الظالم الذي لا يعلم عن سجونه التي تحوي
المظلومين، فتكون النتيجة أن يخرج يوسف بعد إثبات براءته التي لم يجعلها حائلا دون
تقديم المساعدة وقت البلاء، ليكون إلى الملك من المقربين، بل ويجعله على خزائن
الأرض ليدير الأزمة بعلم وإدارة هو أهل لها؛ فرضها بوطنيته على ملك يضع بلاده
ومستقبلها قبل أي خلاف شخصي مع أي جهة كانت، حتى لو كان الملك كافرا، وحتى لو كان
يوسف نبيا.
سجون مصر وكم
الخبرات المتراكمة فيها
مئة ألف أو يزيدون منذ
الانقلاب العسكري في حزيران/ يونيو 2013 وحتى اليوم تئن منهم سجون مصر في كافة
أنحائها، بين أطفال وطلاب وأساتذة جامعات وأطباء ومهندسين وعلماء ومعلمين وباحثين
وخريجي جامعات، بينهم متخصصون في أبحاث الفيروسات والبحوث الطبية بكافة التخصصات،
وذلك في الوقت الذي تئن فيه البلاد من اجتياح فيروس كورونا ككافة دول العالم، وتقع
كذلك تحت إشكالية نقص حاد في عدد الأطباء والطاقم الصحي الذي يواجه بصدر عار
انتشار الإصابة بالفيروس، ويدفع ثمن خطأ النظام في عدم الاعتراف منذ البداية بوجود
المرض.. نظام فتح المطارات المصرية لاستقبال السياح من الصين وإيطاليا في وقت ذروة
انتشار الفيروس لنفاجأ بانتشاره، ويكذب ويخفي الأرقام الحقيقية للمصابين كدأبه
دوما في سياسته مع الشعب والعالم.
وبينما تعلن دولة كالولايات
المتحدة الأمريكية عن إصابات تطال الوزراء ورجال في البنتاغون، ويعلن رئيس وزراء
بريطانيا بوريس جونسون عن إصابته وعزل نفسه في المنزل، ويعلن القصر الملكي عن عزل ولي
العهد البريطاني لاشتباهه بالإصابة، وترفع إيطاليا أكفها لتتضرع للسماء معلنة أن الجهود
الأرضية ما عادت تجدي، وتلجأ دول العالم للإفراج عن المعتقلين والمساجين، وتتسابق
المدن الأمريكية على فتح السجون والإفراج عنهم بالآلاف خوفا عليهم من تفشي المرض
بينهم، وتفرج إيران عن أكثر من ثمانين ألف سجين، وكذلك تفعل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا
وتونس من البلاد العربية.. ما زال النظام المصري يصر على اعتقال المزيد، واستدعاء
المزيد من السياسيين ومنهم الخبراء في مواجهة مثل تلك الأزمات لإبقائهم قيد
الاحتجاز لعدة أيام كل أسبوعين، وتخرج الرسائل من داخل السجون بشكوى التمييز بين
عنابر الجنائيين وعنابر السياسيين، من حيث العناية وتوزيع أدوات التعقيم ومنعها عن
السياسيين نكاية بهم أكثر.
فهذه السلطة تجهل أن المرض
حين يجتاح تلك الغرفات المغلقة والمكدسة لن يفرق بين سجن وسجان، وبين معتقل وضابط،
وبين مظلوم وظالم.. تمنع الزيارات في الوقت الذي يخرج فيه العساكر والضباط ويترددون
بين السجون وبيوتهم مارين على الشوارع ومختلطين بالناس بشكل عادي، مما يشكل خطورة
على المعتقلين بشكل كبير، بينما كافة أسباب انتشار الفيروس متوفرة.
فلماذا يصر النظام المصري
على انتهاك كافة حقوق الإنسان والأعراف الدولية وتجاهل نداءات منظمة الأمم المتحدة
بالإفراج عن المعتقلين؟ وإذا هو رفض لأسباب أخرى سياسية مثلا وخوفا من تأثيرهم في
المجتمع المحكوم بالحديد والنار والدبابة والرصاص، ألا يستغل هؤلاء لمواجهة الأزمة
التي يعجز عن مواجهتها، حفاظا على حياة الناس خاصة بعد إعلان وفيات من داخل
المؤسسة العسكرية، والإمكانات البسيطة لوزارة الصحة المصرية بل وانعدامها، وسوء
الإدارة أو فسادها؛ من قبيل إرسال مليون كمامة لإيطاليا بينما المستشفيات تواجه
المرض بدونها؟ هل عداؤه للمعتقلين وخلافه معهم أكبر من خوفه على حياة الشعب؟ هل
كان الملك المصري في عهد يوسف أكثر وطنية وحرصا على بلاده من حكام اليوم؟
الأداء الرسمي
والثورة الكامنة في الشارع المصري
تحسب كل الأنظمة الشمولية
أن الأمور تستتب لها بالقبضة العسكرية، ويظل الحاكم العسكري مطمئنا للدبابة التي
يتوارى من شعبه الفقير خلفها، آمرا بإسكات كل صوت مدني يخرج ولو كان بالنفاق له،
فكل المدنيين متهمون إلى أن يثبت العكس.. فيتم التفتيش في نواياهم، ومعاني كلماتهم،
ومآلات حروفهم، خوفا من انتفاضة كامنة في شعبه خاصة وقت المحن الكبرى والعامة.
حين تتهدد حياة الناس
ووجودهم، نجد كافة الرؤساء في الدول الديمقراطية يخرجون على شعوبهم بشفافية وصدق،
يحترمون الصندوق الذي أتي بهم، أما العسكري فيختبئ نائيا بنفسه عما يهدد الناس،
مطمئنا لآلته العسكرية التي تقوم بحمايته وحده من جيوب الشعب المنتهك.
وفي استجابة لدعوة الإعلام
المعارض، تخرج المدن المصرين من الشرفات مكبرة ومهللة بشكل غير معتاد للاستغاثة
بالله لفك الكرب عن البلاد وحمايتها من ذلك الفيروس القاتل.
ورغم القبضة الأمنية
العنيفة التي تمنع أي تجمع ثوري لإبداء أدني اعتراض، ورغم خطورة النزول على صحة
الناس وتسعي كافة الأنظمة العالمية وكافة المنظمات الصحية للتحذير منه لخطورته
ومساعدته على انتشار الفيروس، إلا أن بعض الشباب تأخذه الحماسة لينزل للشارع يهتف
ضد التجمع وضد الفيروس. وقد رأى البعض أن ذلك الفعل الساخر من صنع جهة أمنية ما،
لكني أراه نوعا من الغضب المكبوت داخل نفوس هؤلاء. فالوعي الذي صنعته وسائل
التواصل الاجتماعي، والذي صنعه كذلك أداء النظام الفاشل والذي فقد معظم مؤيديه
بسببه، قد حوّل الحزن لغضب يوشك أن ينفجر.
كذلك نقرأ من تلك التظاهرة
الصغيرة والسريعة والتي نجم عنها فرض حظر التجول لاثنتي عشرة ساعة يوميا؛ عدم
الاقتناع وعدم تصديق الشعب لإعلام النظام وعدم استجابته له، بل فتوجه الكثيرون
للبحث عن إعلام بديل خارج نطاق المنظومة الحاكمة.
إن صبر الشعب المصري، وكافة
الشعوب المظلومة لن يطول، ووقت المحن وحين يتعرض الناس للموت سيستوي معهم الموت
برصاصة مع الموت بفيروس. وإذا كانت الإصابات اليوم لم تفرق بين حاكم ومحكوم وبين
غني وفقير، فالشعب غدا لن يترك لهؤلاء فرصة للعيش وحدهم، إن الشعب في انتظار إشارة
قائد يلملم الشتات، ويوجه كافة الجهود في اتجاه واحد، اتجاه الخلاص من النظام
الفاشل الذي يتعمد الفشل وينتهجه سبيلا.
إن الشعب المصري حين دعي
للتكبير رغم رعب النظام من كل صوت؛ خرج للشرفات وكبر تعبيرا عن هويته الأصيلة التي
حاولت الأنظمة المتعاقبة التخلص منها؛ وغرس هوية أخرى تحت راية العلمانية أو
العسكرية، غير أنه في لحظات تسقط تلك القشرة المصنوعة ليعود الناس لحقيقتهم
وأصالتهم.
وسرعان ما ينفرط العقد، وتتقطع القيود، ليصنع الشعب إرادته من جديد.
ربما تكون تلك المحنة التي
تأخذ المنحنى صعودا ولم تبلغ ذروتها بعد، هي سبب تحرر هذا الشعب الذي صبر طويلا،
بينما يرى علماؤه ومفكروه في السجون، وسجانوه على مقاعد الحكم...
هل سيضطر السيسي لإطلاق السجناء؟
لماذا الإخفاء غير المنطقي لإصابات كورونا في مصر؟