من الذكريات التي لا تنمحي من ذاكرة أي مسلم، تلك المتعلقة بشهر رمضان، فمعظمنا لا ينسى مثلا تجربة الصيام لأول مرة، ولا ينسى وقائع معينة حدثت في ذلك الشهر سواء تعلقت بالمشقة أو الروحانيات أو حتى بالوجبات (وبنا شغف عجيب بالوجبات الدسمة في رمضان)، وأعتقد أن تزامن شهر رمضان مع جائحة كورونا هذا العام، فيه رحمة بالصائمين، فالجائحة قائمة منذ أكثر من أربعة أشهر، وحل رمضان في الأسبوع الأخير من تلك الأشهر الأربعة، فلزم معظم الناس بيوتهم طول أو معظم الوقت، مما يجنب الصائمين منهم مشقة الحركة التي تحفز العطش والجوع والرهق.
وبما أنني رهن الاعتقال الطوعي منذ الثامن من آذار (مارس) الماضي، ولم أغادر البيت منذ ذلك التاريخ سوى مرتين للتزود بعقاقير طبية من الصيدلية ـ بعد أن صار الأطباء كائنات مشتبه في أمر إصابتها بالكورونا ـ فإنني أملك من الوقت ما يكفي لكل أمر ينبغي القيام به لملئه، بل عندي فائض منه بعد منتصف الليل، عندما أصبح عاجزا عن القيام بأي نشاط بدني أو ذهني، وأصلا بي نفور من التلفزيون خصوصا في رمضان، لأن جرعة السخف والعبث فيه تكون عالية، عندما توكل أمور الترويح عن الصائمين في قنوات كثيرة لفتيات تُبطل رؤيتهن الوضوء وربما الصوم نفسه.
وفي مثل تلك اللحظات، وأنا أتساءل هل أواصل السهر حتى موعد السحور، أم أحاول استجداء النوم، أجد نفسي أغوص في سنام الذاكرة وأستعيد رمضان السوداني، ولعل السودان هو البلد الوحيد في العالم الذي لرمضان فيه رائحة غير مجازية ذكية، وواقع الأمر أنك تسير في شوارع أي حي سكني في السودان خلال شعبان وأنت غير مدرك لدخوله، فتتسلل إلى أنفك رائحة عطرية فتجد نفسك تهتف: الله أكبر؛ يظهر رمضان على الأبواب.
فما من بيت في السودان يخلو من "الحلو ـ مر" الذي يصنع من عجينة الذرة المخلوطة ببهارات زكية الرائحة، تفوح وتعم القرى والحضر عند إعدادها على شكل رقائق تطبخ على لوح حديدي سميك يسمى الصاج أو الدُّوكة، ويتم طي تلك الرقائق وتجفيفها ليتم نقع بعضها في الماء خلال رمضان لإعداد مشروب ذي حمرة داكنة لا تجد لطعمه مثيلا في جميع المشروبات التي تملأ أرفف المتاجر.
ولكن بؤرة الذكريات الرمضانية عندي تكون دائما تلك الجزيرة النيلية (بدين) التي أنتمي إليها في شمال السودان النوبي، حيث جميع سكانها أهلي، وحيث الصوم وإفطار رمضان عمل جماعي، وتلح علي الذاكرة كيف أقف عند محطة فضيحة لازمتني لسنين طوال، فقد كان من عادة الرجال والصبية الذكور من الأهل التوجه إلى النهر عندما ينتصف نهار رمضان، ويبقوا فيه يسبحون حتى قبل الغروب بدقائق.
ما من بيت في السودان يخلو من "الحلو ـ مر" الذي يصنع من عجينة الذرة المخلوطة ببهارات زكية الرائحة، تفوح وتعم القرى والحضر عند إعدادها على شكل رقائق تطبخ على لوح حديدي سميك يسمى الصاج او الدُّوكة،
كنت في نحو الثامنة من العمر عندما وجدت نفسي مطالبا بالصوم لأثبت أنني "راجل"، وفي أول يوم في رمضان استبسلت حتى منتصف النهار، ثم توجهت إلى النيل مع أقراني، وكان يوما قائظ الحر، ومنطقة النوبة أصلا صحراوية المناخ، بها شتاء قارس البرد وشمس صيفية يخيل إليك أنها شعاع ليزر مسلط عليك شخصيا؛ ونزلت في الماء وأحسست بمسامات جسمي تطلق بخارا ذي هسيس، وانتعشت وسبحت ثم غصت، وهناك تحت السطح أحسست بالماء أكثر برودة، فقلت لا بأس في شفطة بسيطة ولا أحد يراني، وشفطت، وشفطت، حتى صارت الجرعة البسيطة كبيسة، ثم طفوت، وأحسست أن هناك خطأ في قانون الطفو الخاص بأرخميدس، لأنني صرت عاجزا عن تحريك أطرافي كي أبقى طافيا.
عندها رآني أحد كبار السن وحسب أنني على وشك الغرق سحبني إلى الشاطئ، واستلقيت على الرمل الناعم في وضع جنيني، وفوجئت بالماء يتسرب عبر فمي وكأن به تسيبا عضويا، فجلست واضعا رأسي بين رجلي فإذا بالماء يواصل الانسياب، وإذا بجميع من حولي ينفجرون ضاحكين مستهزئين وأطلقوا علي لقب "أرمدان كبي" وأرمدان هو رمضان، فاللسان النوبي لا يخرج صوت الضاد والعبارة بأكملها تعني "فاطر رمضان"، ولسبب لا يعلمه إلا الله لا توجد كلمة نوبية واحدة تبدأ بحرف الراء، وإذا أراد النوبي ان ينادي رقية مثلا فإنه يجعلها "إرقية".
وبداهة فقد صار اسمي أرمدان كبي بن عباس، ولكن المؤلم في الأمر أن تلك التسمية ظلت تبعث من مواتها الموسمي مع حلول عديد الرمضانات التالية، وكنت في الصف الثالث من المرحلة المتوسطة، حيث كان عمري نحو 13ـ 14 سنة، عندما أعلن المدرس أن "يوم غد" هو أول رمضان، فصاح أحد الزملاء بما معناه: مبروك الشهر للجميع ما عدا أرمدان كبي، فتساءل المدرس عن سر التسمية، وما أن عرف تفاصيلها حتى هاج وماج ولعن خاش أهلي النوبيين (ولم يكن هو منهم/ منا) لأنهم وعلى حد قوله يكلفون عيالهم شططا بإرغامهم على صوم أيام كاملة وهم في سن الطفولة باسم "المرجلة".
لم تفارقني تلك الكنية إلا في المرحلة الثانوية عندما أصبحت قادرا على المحاججة والملاججة مستخدما حجج أستاذي ذاك، وجعلتني تلك التجربة التي أستعيدها ضاحكا الآن بعد طويل معاناة للالتفات إلى أمور كثيرة، تتعلق بما يسميه الدكتور الشيخ محمد الغزالي بالتدين الغبي، بل وكيف أن الطريقة التي كنا نَتَلقى بها العلوم الدينية، لم تكن تفيدنا في فهم أبسط مبادئ الدين.. وهذا ما سأخوض فيه الأسبوع القادم بمشيئة الله..
الثقافة التونسية منطقة تحت الاحتلال