لا يمكن أن تغيب مشاهد التهجير القاسية
عن ذاكرة الحاج الثمانيني يعقوب عودة؛ والتي عاشها وهو طفل في الثامنة من عمره في
قريته لفتا غرب مدينة القدس المحتلة، فهو يتذكر كل أحداث النكبة التي حلت عام 1948
وأجبرت الآلاف على الرحيل من قراهم على أمل العودة يوما ما.
"لا أنساها وما
يزال قلبي يخفق".. بهذه الكلمات يعبر عودة عن حنينه الدائم لقريته، وحين
يصفها قبل التهجير كأنه يرحل بذهنه بعيدا إلى تلك الأيام الجميلة التي كانت فيها
لفتا قرية لها مكانتها الاستراتيجية والاجتماعية الهامة بين القرى الفلسطينية التي
شكلت البوابة الغربية لمدينة القدس المحتلة.
القرية بنيت في العهد الكنعاني قبل
ألفي عام وسميت في حينه "نفتوح" ثم تحولت التسمية إلى "نفتو"،
وهي قرية تمتد من قالونيا غربا إلى سفح جبل الزيتون شرقاً والمنطقة الصناعية في حي
واد الجوز، وتحيط بها بلدات بيت إكسا وبيت حنينا وعين كارم والمالحة ودير ياسين.
كان عدد سكان لفتا ثلاثة آلاف قبل
النكبة، بينما كان ما تبقى من أراضيها بعد سيطرة الانتداب البريطاني وتوسيع حدود
مدينة القدس على حساب أراضيها ما يقارب 12 ألف دونم، حيث تم استغلال الأراضي
الملاصقة لسور القدس والمحاذية للجهة الغربية في التوسيع والتي هي ضمن أراضي
القرية.
ويقول عودة لـ"عربي21" إن
القرية كانت تشكل المدخل الغربي للقدس؛ أما ما أعطاها المد الحيوي الذي تمتعت به فهو موقعها الاستراتيجي وكونها البوابة الغربية للمدينة، حيث إن من يأتي من يافا كان
يجب أن يمر بلفتا، وإضافة إلى ذلك فقد كانت لها أهمية مدنية وعسكرية.
ويوضح بأن تلك المقومات جعلت العصابات
الصهيونية تضع لفتا على رأس قائمتها، حيث اعتبرت من أوائل القرى التي احتلت عام
1948 وتم تهجير سكانها.
وفي ذاكرته حول التهجير يتحدث عودة عن
أيام عاشتها القرية تحت الحصار الصهيوني؛ حيث كان منزل عائلته قريبا إلى "عين
لفتا" وهي نبع مياه رئيسية في القرية، مبينا بأنه مع خروج القوات الإنجليزية
من فلسطين بدأت العصابات الصهيونية تتقوى أكثر لأن العتاد تُرك لهم، وفي بداية
الهجوم تمت السيطرة على الجزء العلوي من القرية ومن ثم توجهوا إلى الجزء السفلي
منها، ولم يعد هناك طريق لأهاليها للتوجه إلى القدس بسبب الحصار.
ويضيف بأن الحصار اشتد خلال الساعات
التي تلت الهجوم على القرية وكذلك اشتد معه القتل للفلسطينيين في أرجاء القرية
التي قدمت شهداء كثر، فما كان من أهاليها إلا الخروج مجبرين نحو الكهوف والقرى
المجاورة، مبينا بأن الاحتلال نفذ قبل يوم واحد من الهجوم على القرية مجزرة راح
ضحيتها ستة شهداء وثمانية جرحى، وفي آذار لم يبق أحد في لفتا السفلية لأن الاحتلال
هجّر الأطفال والنساء بعد تنفيذه مجزرة دير ياسين ولم يبق سوى المقاومين فقط.
ويتابع:" أذكر أن والدي أخذني أنا
وإخوتي وخرج إلى شارع بين القدس ويافا بعيدا عن مرمى النار، ثم وصلنا إلى شاحنة
وكنا أطفالا من أربع عائلات وسارت بنا بالقرب من قرية أبو غوش ومن ثم إلى طريق
بيتونيا غرب رام الله ثم إلى مدينة البيرة التي أصبحنا فيها لاجئين".
عاش عودة وعائلته بعد أن نجوا من موت
محتم خلال حرب التهجير؛ في مدينة البيرة لما يقارب العام، وبعدها لم يطق والده
البعد عن لفتا والقدس؛ فقرر أن يعود إلى المدينة وأن يكون في أقرب نقطة على قريته التي
تحولت إلى منازل مدمرة، فعادت العائلة لتسكن في منطقة باب الساهرة في القدس
القديمة وتوفي والده هناك.
الاحتلال الفعلي
لم يكن ما حل بالقرية الوادعة الجميلة
هو آخر المطاف، فالاحتلال عرف جيدا أهمية موقعها ومكانها الشامخ فوق جبل المشارف
والذي أخذ تسميته من إشرافه على عدة واجهات من القدس وما حولها، فأسرع إلى هدم
مبانيها ومعالمها الكثيرة التي كانت تشكل حضارة بأكملها.
ويشير عودة إلى أن الاحتلال عمد إلى
إقامة العديد من المنشآت الهامة بالنسبة له على أراضي قرية لفتا، حيث قام ببناء
الجامعة العبرية ومستشفى "هداسا"، كما وضع مخططات لمحو تاريخ لفتا
ومبانيها، وأقام مستوطنة "راموت" على أراضيها ووضع مخططا لبناء 276
"فيلا" فاخرة لأغنياء اليهود الذين جاؤوا إلى فلسطين من الولايات
المتحدة، ولكن الأهالي اعترضوا على المخطط وتمكنوا من إيقاف المشروع.
ومن اللافت أن الاحتلال كان يماطل ويتجاهل
إقامة مسح أثري للقرية التي سعى إلى تدميرها، وحين قام بالمسح تفاجأ مما وجده في
هذه القرية؛ حيث قال خبراء الآثار: "وجدنا عالما لم نعرفه من قبل"، حيث
تم العثور في آثارها على ست معاصر للزيتون بمرافقها الكاملة، وطرق عمل زراعية
وبناء أساسي للقرية مسطحه 200 متر مربع، ووجدوا أكثر من عشرة مستويات تاريخية غنية
وثرية.
وأقام الاحتلال على أرض لفتا 400 سكن
خاص لكبار ضباط الأمن الإسرائيليين وألفي وحدة استيطانية بطوابق عديدة إضافة إلى
ما يسمى بمباني الأمة ومبنى الكنيست الإسرائيلي، وما زال الاحتلال يسعى إلى إقامة
منشآت ومكتبات ومجمعات تجارية على أراضيها.
ومن المعالم الرئيسية للقرية قبل
الاحتلال مسجد سيف الدين وهو أحد قادة جيش صلاح الدين الأيوبي، ومدرسة لفتا التي
ما زالت قائمة إلى الآن بمبناها المهجور، وعين لفتا التي كانت تسقي بساتين القرية
التي كانت تسمى بغوطة دمشق لخضرتها الدائمة ووقوعها قرب العين الجارية طوال أيام
السنة.
ولم يبق الاحتلال في لفتا على نصف مبانيها
الأصلية، حيث تعمد تدميرها في محاولة لمحوها عن الخريطة، ولكن حتى الآن ما زالت
بقايا 75 منزلا قائمة في القرية.
الوفاء للفتا
كغيرهم ممن يشدهم الحنين إلى قراهم
المهجرة قرر أهالي قرية لفتا اللاجئون في مختلف أماكن لجوئهم إلى إحياء ذاكرة
قريتهم وتعليم أبنائهم وأحفادهم حول تاريخها وما حل بها، واعتبروا ذلك جزءا من
الوفاء لها.
ويوضح عودة بأن أهالي لفتا اعتادوا أن
يكونوا معاً فشكلوا جمعية لفتا الخيرية في رام الله وجمعية أبناء لفتا في القدس
وجمعية لفتا في الأردن وشيكاغو وبوسطن، حيث يجتمعون دائما.
ومن شدة حبه لقريته شكل عودة هيئة
حماية الموروث الثقافي لقرية لفتا والتي يترأسها حتى الآن، وتعمل الهيئة على حمل
قضية لفتا والدفاع في المحاكم الإسرائيلية عن حق الأهالي في أراضيهم لتبقى لفتا
منتصبة وليشهدوا أنه كان على أرضها شعب وأرض وتاريخ، كما يحرصون على أن يأخذوا
أبناءهم جميعا في المناسبات المختلفة إلى ما تبقى من القرية والتعريف بمنازلها
ومعالمها وبجريمة الاحتلال فيها.
وعملت الهيئة كذلك على إصدار مؤلفات
عديدة للحديث عن تاريخ لفتا وما حل بها، وذلك في محاولة لحماية موروثها رغم
احتلالها وإقامة المباني المختلفة على أراضيها.
وختم بالقول:" الوطن يحتاج ثمنا، ومهر
الوطن وفلسطين مهما بذلنا ليس كثيرا عليها، لفتا بوابتنا للقدس والقدس بوابتنا
لفلسطين، لن ننسى لفتا فعلى بعد أمتار كنا نردد (لفتا اسلمي نحن الفدا.. لفتا
انهضي رغم العدا).
20 عاما على "الانتفاضة الثانية".. ما الذي تحقق؟
"عمواس".. قرية فلسطينية ظلمها الطاعون والاحتلال الإسرائيلي
أولمبياد ميونخ 1972.. شهادات تاريخية