ليست غاية هذا النص قصيدةً نثرية في البكاء على الأطلال فقد كفانا الشعر العربي مشقة نص جديد، بل هو قراءة في الشعور الجمعي للأمة بعد الضربات القاسية التي تلقتها إثر الحصاد الدامي لثوراتها الأخيرة. يسود المنطقة العربية والإسلامية شعور بالمرارة بعد أن اتسعت رقعة الفوضى والدمار بسبب الانقلابات العسكرية التي أعقبت سقوط أعمدة استبدادية كثيرة منذ الانفجار التونسي الكبير.
أنجزت الشعوب ما لم يُنجزه غيرها وقدمت من التضحيات ما لم يقدمه غيرها ودفعت من قوافل الشهداء ما لم يدفعه غيرها من الأمم لكنّ آليات الانقلاب والتآمر ومحركات الانتكاس التي تقودها الدولة العميقة وبقايا النظام القديم بتوجيه من القوى الخارجية نجحت في تحويل العرس الثوري إلى مأتم انقلابي.
تراكمات الوجع
قد يكون العرب من بين قلة من الأمم التي راكمت عبر تاريخها الطويل وخاصة الطور المعاصر منه هزائم ثقيلة وخيانات لا تُحصى حوّلت واحدة من أعظم الحضارات في التاريخ إلى كتلة من الهباء تذروها الرياح وتتحكم بمصيرها شرذمة من أعداء الخارج وعملاء الداخل. سقطت الأندلس التي كان للعرب فيها حظ علميّ عظيم ثم احتُلّت كل الحواضر العربية من المشرق إلى المغرب ثم جاء المحتل الأوروبي الجديد فضاعف من وقع الهزيمة الحضارية وكاد يُلغي الأمة من الوجود. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وكان من مخارجها إعادة تقسيم العالم على أسس جديدة فأخرجت مسرحية استقلال الدول العربية بناء على تقسيمات سايكس بيكو وانتقلت الحواضر من السلطة العسكرية الاستعمارية إلى سلطة استبدادية عربية أشد وأقسى حتى جاءت ثورات الربيع.
لن يكون في مقدور الأنظمة الاستبدادية العربية التي فقدت كل شرعية ومصداقية أمام شعوبها أن تنقذ نفسها من موجات التغيير القادمة وهي موجات حتمية لا مهرب منها لأن شروط انفجارها لا تزال قائمة بل ازدادت عمقا وتوسعا.
انفجرت الشعوب بعد أن أدركت أن حرب التحرير لم تنته بعد وأن الاستقلال أكذوبة سخيفة وأنّ الأنظمة العربية ليست في الحقيقة إلا وكيلا استعماريا حارسا لمصالح أعدائها. صادرت الأنظمةُ الحرياتِ وقمعت كل أنواع المعارضة السياسية والمدنية وألجمت الإعلام وصادرت حرية التعبير ونشرت كل أنواع السموم والجريمة والانحراف وتسببت في هزائم لا تعدّ ولا تُحصى. بل إن الجرائم التي ارتكبها النظام الرسمي العربي في حق المجتمع والثقافة وفي حق الأمة ومقدساتها وعلى رأسها القضية الفلسطينية كانت أخطر من كل جرائم الاستعمار لأنها تمّت بأياد داخلية مقنّعة لا يمكن تمييزها. خُدّرت الشعوب بالوطنية الكاذبة والشعارات القومية واليسارية واللبرالية والدينية وانتهى بها المطاف أمة في ذيل الأمم تتناوب على غزوها واحتلالها كل الكيانات الاستعمارية والقوى الغازية.
لم يقتصر هذا الإحساس بالوجع الحضاري على مستوى الجماعة والأمة بل تجاوزه إلى مستوى الفرد العربي الذي صار يتجرّع يوميا كل أنواع الذل والمهانة بعد أن أصبح لاجئا عبر الحدود أو هاربا في قوارب الموت أو سجينا في زنازين الطغاة يسهر على تعذيبه جلاد من بني جلدته. تمرّ الأمة اليوم إذن بأقسى مراحل تاريخها المعاصر وهي التي تقف على مفترق طرق بين الثورة المغدورة والأمل في تجدد الموجة الاحتجاجية لاستكمال المشروع الثوري.
الوجع الجديد
كانت الموجة الثورية التي صاحبت ثورة مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا موجة فاعلة ولكنها كانت كذلك عاطفية استبدّ بها شعور عظيم بالتحرّر والقدرة على الانعتاق. عاشت الشعوب العربية خلال هذه الفترة التي سبقت سقوط الطغاة وأعقبتها واحدة من أهم لحظاتها التاريخية المفعمة بالانتصار والقدرة على تحقيق النصر على الاستبداد وأعوانه ومموليه. كان سقف الأمل عاليا بعلوّ شعارات الثورة وعلى رأسها شعار "الشعب يريد" وانكسر حاجز الهزيمة الذي تراكم منذ عقود من الاستبداد.
لكنّ أحداثا أعقبت سقوط أنظمة القمع وردّة الثورة المضادة التي ارتكبت أبشع المذابح في حق الشعوب الثائرة وخاصة في سوريا ومصر وليبيا أحيَت من جديد تراكمات الانكسار وعقدة الهزيمة. لم تقتصر حالة الانكسار على قمع السلطة وجرائم الجيش والشرطة التي جُعلت في الأساس لحماية الشعب بل إن أعمق الانكسارات إنما تمثّل في خيانة النخب والأحزاب والمشاهير والشخصيات العامة والمراجع الثقافية والدينية لتطلعات الشعوب.
ستواجه الأمة مستقبلا جلاديها بوعي جديد متحرر من كل قدرة على الإيقاع به أو التآمر عليه أو إيهامه بعجزه عن الفعل وبأن الاستبداد قدره الذي لا فكاك منه. أوجاع اليقظة على بشاعة الاستبداد وتحالفه مع الاستعمار ستكوّن رأس الموجة الثورية القادمة التي لن ترحم أحدا مهما طال انتظارها.
لقد كانت خيبة أمل الشعوب في القامات الكثيرة التي أثثت المشهد العربي طوال عقود من الزمن كبيرة إذ وجدت الشعوب نفسها تواجه آلة موت النظام دون إسناد داخلي من النخب والقوى التي طالما تغنت بالثورة ونادت بالتغيير والحرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
تآمرت على الأمة وعلى مطالب التحرر قوى الداخل والخارج ونجحت إلى حدّ بعيد في تحويل العرس الثوري إلى مأتم انقلابي. فصُنعت الجماعات الإرهابية ونُفّذت الاغتيالات السياسية ومورست أبشع عمليات القمع باسم الحرب على الإرهاب وباسم محاربة الإرهابيين ووصل الأمر في سوريا أن اجتمعت على الثورة هناك فصائل مليشيات الطائفية من لبنان وأفغانستان وباكستان وكردستان والمرتزقة الروس وشاركت في ذبح شعب سوريا أنظمة عربية خليجية ومشرقية من أجل بقاء النظام الدموي الطائفي حاكما في بلاد الشام بقوة النار والحديد. لم يكن موقف المجتمع الدولي من هذه المذابح المفتوحة مفاجئا وهو الذي دعم كل الدكتاتوريات العربية ضدّ شعوبها فتاريخه حافل بالقتل وبدعم الطغاة لكنّ الصدمة الكبرى كانت في قدرة أبناء البلد الواحد على ذبح إخوانهم نصرة للطائفة ونصرة لنظام قمعي متوحش.
الأمل من رحم الوجع
رغم كل هذه المآسي والآلام فإنّ كثيرين يرون عن صواب أنّ هذه الصدمة التي مُنيت بها الأمة كانت ضرورية لكي تفيق من سباتها الذي طال. إنّ انكشاف المشهد العربي وانكشاف طبيعة الفواعل فيه كان مرحلة هامة ومنعرجا حاسما في تحوّل الوعي العربي الجمعي من طور السبات إلى طور اليقظة. صحيح أنّه من المبكّر الحديث عن انتقال كامل من طور إلى آخر لكن لا أحد يستطيع أن ينكر المكاسب التي حققها الوعي العربي منذ الانفجار التونسي الكبير إلى اليوم.
لقد ارتفع القناع عن دور كثير من النخب السياسية والفكرية والعقائدية التي لم تكن في الحقيقة سوى عجلة احتياط للاستبداد وأدبياته كما كانت ركيزة أساسية في مشاريع الهيمنة الاجتماعية التي كان يقودها. هذا الأمر يفسّره نجاحها في المساهمة الفعالة في عودته إلى تصدر المشهد من جديد كما حدث في مصر بعد أن شاركت نخب كثيرة في تشويه الرئيس المنتخب وفي الإعداد للانقلاب على الشرعية.
قد كانت خيبة أمل الشعوب في القامات الكثيرة التي أثثت المشهد العربي طوال عقود من الزمن كبيرة إذ وجدت الشعوب نفسها تواجه آلة موت النظام دون إسناد داخلي من النخب والقوى التي طالما تغنت بالثورة ونادت بالتغيير والحرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
هذا المكسب النوعيّ هو أهم ما تحقق للأمة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان لأنه أعاد ترتيب المشهد والأوليات وقدّم عملية فرز نادرة لا تتحقق إلا في أطوار استثنائية من تاريخ الأمم والشعوب. بناء على هذا المكسب ستكون الأمة قادرة على تجاوز آلام الانكسار وتحقيق النصر المأمول وهي تستند على فواعل حقيقية وعلى قدرات ذاتية تحصّنها من كل الخيانات الداخلية والخارجية.
لن يكون في مقدور الأنظمة الاستبدادية العربية التي فقدت كل شرعية ومصداقية أمام شعوبها أن تنقذ نفسها من موجات التغيير القادمة وهي موجات حتمية لا مهرب منها لأن شروط انفجارها لا تزال قائمة بل ازدادت عمقا وتوسعا. ستواجه الأمة مستقبلا جلاديها بوعي جديد متحرر من كل قدرة على الإيقاع به أو التآمر عليه أو إيهامه بعجزه عن الفعل وبأن الاستبداد قدره الذي لا فكاك منه. أوجاع اليقظة على بشاعة الاستبداد وتحالفه مع الاستعمار ستكوّن رأس الموجة الثورية القادمة التي لن ترحم أحدا مهما طال انتظارها.