يتعامل الكثيرون مع مصطلح "
الدين" بشكل اعتباطي دون التوجه لمعجم يوجههم نحو استخدامه في السياق الصحيح. يظهر "الدين" كشيء جميعنا يعرفه حين يراه، كما يصف أستاذ الدراسات الدينية تشارلز كيمبال. ولكن تبدو المفارقة واضحة عندما نقارن بين الاستخدام العام لمصطلح الدين وبين استخدام الأكاديميين المعنيين بتحديد ملامح مصطلح الدين وإيجاد تعريف واضح له حيث يبدو أنه من غير الممكن الإمساك أو الإحاطة به.
برز اهتمام علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا مؤخراً في الدين بعد إعادة قراءة تاريخه بعين ناقدة أوصلت الكثير منهم إلى خلاصات تشكك في القدرة على إيجاد تعريف للدين. إلا أن هذا التشكيك لم يثنهم عن الانشغال بالدين كموضوع للبحث والتقصي ما أضاف إرباكاً حول هذا المفهوم وطريقة استخدامه.
مرت الأكاديمية الغربية بتحولات منهجية كبرى في تعاملها مع الدين وتعريفاته، فبعد اعتراف الغرب بالأديان خارج النطاق المسيحي، برزت الأزمة في إيجاد تعريف واضح يشمل دين الآخر وإرثه. انطلقت تعريفات الدين الحديثة إما من مقاربات جوهرانية تُعنى بتمييز محتواه الذي يجعل منه دينا ويجعل له أتباعاً، أو بمقاربات وظيفية تنظر في ما يلعبه الإيمان من دور في تحريك حياة الناس.
تطرح هذه المقالة خلاصات هذه المقاربات وتتعرض للإشكاليات التي تخلقها تعريفات الدين المختلفة، وإن كان ثمة أطروحات استطاعت تجاوزها.
صناعة الدين
حاول الجوهرانيون تعريف الدين من خلال العناصر الأساسية التي تشكله، كوجود نظام اعتقادي يؤمن بإله أو كائنات فائقة للإنسان. قدم هذا الشكل من التعريف الدين باعتباره ثابتاً في الثقافات وعابراً للأديان. بالتالي استثنت هذه المقاربة مثلاً البوذية والكونفوشية والطاوية من الدخول في نطاق الأديان كونها لا تعتمد على إيمان بإله أو آلهة. لحل هذه المعضلة قدم بعض العلماء تصورات جديدة للمقدس أو "الإلهي" ليشمل تصورات تدمج كل إيمان جاد بشيء يجعل منه مقدساً أو متجاوزاً وإن كان مادياً.
ساعد توسيع إطار مفهوم الدين في تحويله إلى مفهوم شامل يضم جميع الأديان دون إزاحة الغموض عنه أو توضيحه. من الأسباب التي صنعت هذا الغموض كما يؤكد الأنثروبولوجي طلال أسد هي النزعة
العلمانية في تحديد الدين بجوهر منفصل عن باقي ممارسات الإنسان ومعتقداته. لا تنفصل هذه النزعة عن التاريخ المسيحي ونشوء الدولة الحديثة الغربية التي تحاول احتكار المجال السياسي العام وحصر الدين في الحيز الشخصي الخاص. بالتالي يخلص طلال أسد إلى نتيجة مفادها أنه ليس من الممكن الحصول على تعريف شمولي للدين وأننا لا نستطيع فصل الدين عن مجال القوة والسياسة. بل إن أي تعريف للدين ما هو إلا نتاج أيديولوجي متأثر بخطاب قوى معينة لا يمكننا فهمه خارج سياقه التاريخي الخاص.
الدين في كل شيء
في مقابل الجوهرانية، ظهرت التعريفات الوظيفية للدين والتي عنيت بمجموع الأدوار التي يلعبها الإيمان في النطاق الأخلاقي والقيمي للمجتمعات، أو فيما تقدمه من دعم عاطفي ومصالحة الفرد مع المحيط وإعطائه هوية أو معنى. ينتج عن هذه المقاربة تضمين أي ظاهرة فاعلة باعتبارها ديناً نفعياً بالإضافة إلى اختزالها الدين في وظيفة اجتماعية أو نفسية موجهة أيدولوجياً عبر صانعيها.
بالمقابل تُدخل الوظيفية إلى الدين أفكار وممارسات عُرفت بعلمانيتها ولكنها في الحقيقة تعمل عمل الدين. لذلك نجد الآن من يرى القومية والماركسية أدياناً، وهناك من يتكلم عن دين السوق ودين الإنسانية الذي قد يكون أكثر أتباعه من الملحدين. تصف هذه المقاربة أي شيء بأنه ديني حتى وإن كانت ممارسات يومية مثل ممارسة الرياضة أو حتى مراسم الشاي وكعك العيد وكل ما يحوله مجتمع ما إلى مقدس يحتفي به.
من الأزمات التي خلقها توسع مقولة الدين- كما يؤكد ويليام كافانو- أنها أفقدتها المعنى ولم تساعد في تمييز الدين عن أي شيء آخر. يظهر الدين كشيء أساسي في حياة كل إنسان أو كما خلص ويلفريد كانتويل سميث "لقد كان الإنسان دوماً وفي كل مكان ما نطلق عليه اليوم (دينياً)". ولهذا، يقترح سميث الاستغناء عن مصطلح الدين فقد أصبح غير ضروري حيث أن بإمكاننا أن نكون متدينين دون مفهوم الدين. أي أن المفهوم مهما حُددت معالمه وخُصصت ليظهر أكثر عقلانية، إلا أن ممارسات الواقع أكثر تركيباً وأقل انفصالاً.
أين نحن من الأزمة؟
لا تبدو تعريفات الدين واعدة خاصة وأن فكرة الدين ما تزال محل خلاف كبير في الغرب الحديث. فإن لم يكن هناك جوهر نستطيع أن نعرف الدين من خلاله، وإن كانت لا تزال عملية تعريف الدين مستمرة رغم ذلك، فهل يكون الدين خدعة غير منتهية؟ يقدم في هذا الصدد المؤرخ الأمريكي جوناثان سميث نتيجته القائلة بأن الدين ما هو إلا اختراع نجم عن دراسات العلماء ولا وجود له خارج الأكاديمية.
ولكن كل الأوصاف التي تؤكد بأن الدين اختراع، صناعة، أو خدعة لا تنفي التأثير الذي أحدثته ولا الأزمة التي خلقتها في تعاملنا مع مفهوم الدين. هذه أزمة تخص كل ثقافة تأثرت بالغرب والدراسات الحديثة التي كشف العلماء أنها كانت معنية في تمرير أيدولوجية طامحة للسيطرة على معتقدات الآخر وشل حركته السياسية. يرى ويليام كافانو أن "الدين" بمفهومه المنفصل عن باقي مناحي الحياة هو غربي بامتياز وبأنه لم يتحول إلى مفهوم عالمي إلا من خلال تأثير القوى الاستعمارية والتفاعل معها.
يحثنا هذا إلى طرح مجموعة من الأسئلة المتعلقة في حجم تأثّر استخداماتنا لمصطلح الدين وما إذا كنا حقا نعني الإسلام في حديثنا عن الدين؟ هل ثمة مخرج لتعاملنا مع إرثنا الديني بمعزل عن تأثرنا بما فرضه الإرث الاستعماري؟ وهل الإسلام بنصوصه وتراثه قادر على حل هذه الأزمة وتقديم تصوره الخاص للدين؟
يقدم الإسلام بنية مركبة لمفهوم الدين حيث يُشرك الإرث الإيماني للآخر ويعترف بتاريخه الديني العريق ولكنه يجد في نفسه القدرة على توحيده تحت مسمى "الإسلام". وهو يستخدم تصنيفاً وصفياً للدين مؤكداً على اختلاف الشرعة والمنهاج بين البشر، "لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً". ولكنه لا يتنازل عن الوصف المعياري للدين الحق، معلناً بكل صرامة ووضوح بأنه الدين، "إن الدّين عند الله الإسلام".
تحثنا هذه المفاهيم التأسيسية على إعادة النظر في تعريفنا للدين بمعزل عما تصنعه الأكاديمية الغربية وتحاول فرضه. وإن قبلنا بنتائج الأكاديميين الغربيين، الصادقين منهم، فإن علينا التعامل معها كمنطلق لمسيرتنا في فهم الدين من الداخل. إن ما نحتاجه هو تحرير مصطلحاتنا من سياقاتها الاستعمارية والتي لا تزال تحاول تمرير خطاب "أزمة الإسلام" الساعي لفصل الإرث الإسلامي عن الزمن العلماني الحديث وتعطيل فاعليته وتحطيم أي استشراف واعد للمستقبل.