تبقى في الذاكرة صور لا تنمحي ولا تزول مهما مرتِ الأيام؛ ومن أبرزها قطار احترق قرب البلدة الجنوبية
المصرية حيث كانت الطفولة، وفي عيد الأضحى قرب نهاية عقد السبعينيات كانت مشاهد بقايا الملابس وأغراض الركاب الباقية ومنها بقايا رضاعة لصغير، وبعض حقائب شبه مُحترقة؛ كانت المشاهد تُدمي القلب، فيما الصبي بعد يوم من زيارة بقايا القطار يذهب مع والدته لزيارة أهلها وقبر والدتها؛ فيرى قرب قرية البهنسا المشهورة بقايا قضبان السكك الحديدية مزروعة في أرض الشوارع ما تزال، فلما سأل والدته أوضحت له أن الإنجليز الغُزاة المُحتلين كانوا يستخدمون هذا الطريق الفرعي للسكك الحديدية لنقل القطن من القرى؛ بعد جمعه ثم نقله إلى المدينة ومنه للمحافظة فالعاصمة.
لم يُعشش الخراب في قضبان السكك الحديدية الخاصة بالقرية الرئيسية وحدها، وإنما سكن الجسر أو "الكوبري" الواصل بين جانبي الطريق حين مرور القطارات. وجاءت حكومات مع المآسي التي عمرتِ البلاد بعد تموز/ يوليو 1952م، وحاولت حل أزمة الحوادث التي يتسبب فيها غلق وفتح "المزلقان"، أو منطق تقاطع مرور البشر والقطارات، وهي مساحة بسيطة ضيقة. ومع صوت التحذير بعد إغلاقه بعمودين حديدينِ عملاقينِ، أو مع الاكتفاء بالصوت وحده، صارت حوادث دهس القطار السريع للبشر بخاصة الفلاحين والبُسطاء تزداد، دون أن تفكر حكومة حتى اليوم في إعادة تعمير "جسر الإنجليز" الذي كان يعمل قُبيل مجيء القرن العشرين بشكل حضاري وبإنارة مُخصصة في الليل، وبثقافة يفهمها أهل البلدة جميعا؛ فصار الآن مُستقرا للحشرات والحيوانات الضالة.
وأساسي القول بأن السكك الحديدية المصرية التي أنشأها في الصعيد "روبرت جورج ستيفن"، نجل مخترع القطارات البخارية بين عامي 1878 و1898م، كبقية لسكك حديد مصر وثاني خط دولي في العالم؛ هذه السكك الحديدية التي ضبطها البريطانيون تماما خلال فترة احتلالهم لمصر، صارت تنازع المعدل العالمي الأكبر لخسائر الأرواح من بعدهم، بالتكامل مع حوادث الطرق السريعة.
تعد السكك الحديدية مثالا لجميع أوجه الحياة الضرورية والرئيسية التي أجاد المحتلون الغزاة إدارتها في المدن، بل القرى قبل عواصم الأقاليم والعاصمة وهلم جرا؛ في مصر وغيرها من بلاد العرب، ومن بعدهم عصف
الفساد بالتزاوج مع الواسطة والمحسوبية والشعارات الطنانة البراقة الكاذبة بكل شبر؛ أو كما أبدع "ابن خلدون" في مقدمته منذ سنوات طويلة موغلة في عمق التاريخ: "يجلب الطغاة الغزاة".
يقود انفجار بيروت الهائل في الثلاثاء 4 من آب/ أغسطس الذي حصد وأصاب الآلاف، وأدخل المدينة في عالم من الثكل لم يغب عن وجهها طويلا بعد الحروب الخارجية والداخلية الطويلة؛ كل مخلص عاقل في هذه الأمة على التفكير في هؤلاء الطغاة الذين يحكمون، أوَليست لهم عقول يفهمون ويفقهون بها؟ أوَليست لهم أفهام أم سلبت المطامع منهم حتى مجرد التعقل أو التفكير؟ كأن لهم عقولا إن استبدت بهم المتاهات، أو هُددتْ عروشهم الواهية، وكيف يُحسن المُحتل المستعبد لقدرات البشر والبلاد إدارة معظم وطننا العربي؛ فيما يفشلون، بل يُعبدون الطرق لشوق مواطنيهم لعودة الغزاة إلى حكمهم؟!
نشرت مجلة اسمها "الاثنين والدنيا" التي كانت تصدرها دار الهلال المصرية؛ تحقيقا صحفيا عام 1947م استطلعتْ فيه رأي المشاهير وقتها في كيفية رؤيتهم لنهضة مصر والدول العربية عام 2000م، ومع يقين أغلبهم بأنهم لن يستمروا على قيد الحياة حتى هذا التاريخ؛ إلا أنهم تباروا في وصف الاستقلال والنهضة والتقدم وبلوغ منزلة إنجلترا وفرنسا وبقية دول العالم الكبرى. فهل خطر على بال أحدهم أن معظم بلادنا العربية بعد مجيء الألفية الثالثة بقرابة عقدين، ستكون في مثل هذا التخلف والتبعية المميتة المُقيتة للمحتل؟ حتى إن الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" سيكون أول رئيس على الإطلاق يزور بيروت بعد الانفجار بيومين اثنين؛ فيطلب منه بعض أهلها عدم تسليم المساعدات للحكومة المحلية "الوطنية" لأنهم لا يأمنونها؛ وإنما يجب على رجاله توزيعها بأنفسهم، والإشراف على إعادة بناء بعض ما تهدم من عاصمتهم، وفي المقابل يوقع الآلاف عريضة بطلب احتلال فرنسا للبنان لإنقاذها مما تفعله فيها الحكومات الأهلية، فيما يعد ماكرون بتحقيق عالمي نزيه وربما إمكانية مُعاقبة المسؤولين المحليين عن الكارثة؛ ويبادر بإعادة زيارة بيروت مرة ثانية منذ أيام!
أي كابوس هذا الذي تحياه أجيالنا بعد انحسار الربيع العربي وإفاقة الثورات المضادة وكبار مجرميها؛ أو بعد أن ضحى الجزائريون بمئات الآلاف لترحل فرنسا عن بلادهم، وبعد أن ناضلت بيروت وبذلت الغالي من أعز ما تملك لتتركها فرنسا، وبعد احتفاظ الأخيرة بقرابة 18 من جماجم لعرب قتلوهم في متحف أسمته ظلما باسم "الإنسان"، وبعد عشرات السنوات من النضال العربي وإهدار الدماء لإجبار الطغاة الغزاة الماصين لخيرات شعوبنا الرابطين لها ضمن مشروعاتهم الأنانية؟ أوَبعد كل هذا يأتي أبناء للأمة ليحكموها فيُلقون أنفسهم في أحضان الغرب، ويزيدون من الإفساد والاستئثار بالخيرات، حتى لتتمنى شعوب عربية عودة المُحتلين؟
رحمنا الله من آلام هذه الفترة التاريخية المظلمة المُضنية من حياة الأمة، وأعاننا على مواجهة تحدياتها ونشر الأمل في النفوس.