معضلة الاقتصاد الليبي تكمن في هيكليته التي تتمحور حول اقتصاد الدولة والخزينة العامة المعتمدة على النفط كمصدر وحيد للدخل وبنسبة تزيد على 96%. وصارت الهيكلية معضلة منذ الانقلاب الاشتراكي الذي قضى على القطاع الخاص تقريبا وذلك في أواخر عقد السبعينيات من القرن الماضي، وسيطرة الدولة على معظم الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية التوزيعية، بحيث تم تأميم كل أنواع التجارة حتى محلات البقالة الصغيرة، ولتصبح مؤسسات الدولة مسؤولة عن توريد وبيع كافة أنواع السلع الغذائية والملابس والمواد المنزلية والصحية ومواد البناء وقطع غيار السيارات... الخ، وتمت مصادرة شركات البناء والشركات الصناعية وكافة أنشطة الخدمات وحل القطاع العام محلها.
عشر سنوات فقط لتظهر الآثار الكارثية لهذا الانقلاب، فشركة الأسواق العامة التي حلت محل نشاط تجارة التجزئة من مواد غذائية وملابس ومواد منزلية تكبدت خسائر بقيمة 400 مليون دينار ليبي (الدينار يعادل وقتها 3.3 دولار أمريكي)، وقس على ذلك معظم الشركات العامة، والحديث يطول عن خسائرها الفادحة.
كان من أهم تداعيات الانقلاب الاشتراكي هو أن صارت الدولة هي الملاذ الوحيد للتوظيف، وهي مصدر الإنفاق على الاحتياجات العامة والخاصة للدولة والمجتمع، فتضخمت الميزانية العامة خاصة بند المرتبات الذي صار يستنفد 40% منذ تسعينيات القرن الماضي، ليرتفع أكثر خلال العشر سنوات الماضية، فيما تقلصت الإيرادات بسبب اضطراب أسعار النفط وبسبب المناكفات السياسية للنظام السابق وصراع الفرقاء بعد 2011م.
جاءت ثورة فبراير لتجديد الأمل في تصحيح الوضع الاقتصادي وإعادة هيكلته بشكل يحقق التوازن بين القطاعين ويعطي للقطاع الخاص الفرصة للانطلاق وتوسيع قاعدة الإنتاج وتنويع مصادر الدخل، لكن الصراعات الداخلية والمؤامرات الخارجية أجهضت الحلم، فتعاظمت أزمة الهيكلية وتضخمت النفقات العامة حتى بلغت نحو 460 مليار دينار ليبي منذ العام 2012م (نحو 330 مليار دولار)، وليكون نصيب حكومة الإنفاق من الإنفاق العام 241 مليار خلال أقل من خمس سنوات، أكثر من نصفها ذهبت في شكل مرتبات (25 مليار في العام)، يضاف إليها نحو 60 مليار هي مصروفات دعم الوقود والنفقات التسييرية الحكومية خلال نفس المدة، بحيث بلغ مجموع نفقات المرتبات والدعم والتسيير نحو 90% من إجمالي الإنفاق العام.
جاءت ثورة فبراير لتجديد الأمل في تصحيح الوضع الاقتصادي وإعادة هيكلته بشكل يحقق التوازن بين القطاعين ويعطي للقطاع الخاص الفرصة للانطلاق وتوسيع قاعدة الإنتاج وتنويع مصادر الدخل، لكن الصراعات الداخلية والمؤامرات الخارجية أجهضت الحلم، فتعاظمت أزمة الهيكلية وتضخمت النفقات العامة
نفقات التنمية ظلت خلال الأعوام الست المنصرمة في أدنى مستوى لها، لتصل إلى 300 مليون دينار ليبي فقط خلال الترتيبات المالية (الميزانية العامة) للعام 2020م فقط، في بلد دمرت الحروب أحياء كبيرة منه وتعاني بنيته التحتية من التردي منذ عشرات السنين.
الدين العام تجاوز المائة مليار دينار أو ما يعادل الـ270% من الناتج المحلي الإجمالي، وأمام هذا الإنفاق الهائل والدين المتعاظم تراجعت الإيرادات بشكل كبير بسبب عبث إغلاق النفط وتوظيف قوت الليبيين في الصراع السياسي، لتبلغ خسائر إغلاقه نحو 260 مليار دينار ليبي.
الإرادات النفطية خلال العام 2020م وحتى 30 أيلول (سبتمبر) الماضي بلغت 3.7 مليار دينار فيما تجاوزت النفقات الـ25 مليار دينار، أي أن عجز الميزانية خلال 9 أشهر فقط بلغ نحو 22 مليار دينار.
الأزمة بلغت درجة من الحدة حتى بات موضوع الإصلاح الهيكلي أمرا ثانويا وهامشيا، فالأزمة اليوم أزمة نقص سيولة وتدني قيمة العملة المحلية التي تجعل المواطن يعجز عن توفير أساسيات المعيشة اليومية من أكل وشرب، وأزمة كهرباء جعلت من حياة الناس معاناة لا تطاق، وقس على ذلك الخدمات الأخرى الضرورية.
أسباب الكارثة في القديم والحديث هي تصرفات عبثية للمسؤولين عن مال وقوت الليبيين، فقد ضيع النظام السابق فرصة عظيمة لنقل البلد إلى مصاف الدول ذات المستوى المرتفع من الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، وجاء بعد فبراير مهووسون بالسلطة وفاسدون ضاعفوا من التحديات والعقبات فكانت النتيجة ازدياد معاناة المواطن.
ليبيا.. التزييف والتضليل في أبشع صوره
دلالة تصريح بومبيو حول مرتزقة الفاغنر
ليبيا.. المنعطف الحاد والتصرفات اللامسؤولة