خطأ كبير يقع فيه الإنسان الأبيض.. فهو يحاول أن يختزل الإنسانية في ذاته، فالثقافة ثقافته، والتاريخ تاريخه، والفلسفة فلسفته.. وهكذا إلى آخر مواضيع الحياة.
يتعمد ذلك الإنسان الأبيض أن يبني جدرانا في التاريخ والجغرافيا..
في التاريخ يفصل الجدار بين ما قبل الأوروبي، وما بعد الأوروبي.. قطيعة معرفية كاملة، فيبدو لك تاريخ العلوم مبتورا، يبدأ من أوروبا وينتهي إليها، وكأن أحدا من البشر لم يضف لمعارف الأوروبيين أساسات ما كان ليقوم بنيانهم لولاها..
بل إن تاريخ التجارة والاقتصاد يدوّن بالشكل نفسه، فيتم تجاهل كل نشاطات التجارة والصناعة في كوكب الأرض، وتختزل في الثورة الصناعية التي تكرّم بها الإنسان الأبيض، ومنّ بها على البشرية.
ليس ذلك إنكارا لأحداث التاريخ، فكل ما كتبوه حدث بالفعل، ولكنها أحداث لها سياق، ولم تكن أحداثا في فراغ، ولو قورنت هذه الأحداث بأحداث وإنجازات أخرى قامت بها شعوب أخرى سيتغير موقفنا منها، وسندرك حجمها الحقيقي في تاريخ البشرية، ولكن كيف نفعل ذلك مع أناس يعتقدون أنهم هم البشرية، فيتجاهلون حضارات كاملة؟
عشرات الملايين من البشر عاشوا في الأمريكتين - على سبيل المثال - ويؤرخ الإنسان الأبيض لتلك القارة باليوم الذي رست فيه سفينته على شاطئ القارة، وبدأوا بقتل الأبرياء، وانتهاك أعراضهم، واغتصاب أراضيهم، بكل الطرق الوحشية التي يمكن أن يتخيلها المرء.
ويبني الإنسان الأبيض كذلك جدرانا في الجغرافيا، فيقسم العالم شمالا وجنوبا، ويخط الحدود المبنية على التحيز الثقافي، والطائفي، والعرقي.. كما يشاء.. ويصوّر خريطة الكوكب كما يشاء، ووفقا لمصالحه، بينما الحقيقة أنها مجرد آراء تنضح تحيزا، بل تطرفا.
* * *
لا أريد أن أخوض في أمر الرسوم التي نشرتها مجلة "شارلي إبدو" بطريقة "شعبوية"، أو بمزايدة سياسية، أو حتى من منطلق شرعي (رغم أن ذلك من حقي، ومن حق كل عربي مسلم)، ولكن سأتحدث بالقانون: هذه الرسومات باطلة قانونا بحكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وليسمح لي القارئ الكريم أن أقتبس نصا كاملا لتوضيح الأمر، يقول الخبر الذي قرأناه في وكالات الأنباء في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2018م:
"أقرّت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، بأنّ الإساءة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا تندرج ضمن حرية التعبير.
جاء القرار دعما لحكم صدر في النمسا ضد سيدة نمساوية حكمت المحاكم الإقليمية بتغريمها 480 يورو، إضافة إلى مصاريف التقاضي بتهمة الإساءة للرسول محمد عليه السلام عام 2009م.
وقالت المحكمة، في بيان على موقعها الإلكتروني، إنّ الإدانة الجنائية ضد سيدة نمساوية أطلقت تصريحات مسيئة للرسول وتغريمها 480 يورو "لا يعد انتهاكا لحقها في حرية التعبير".
وأضافت: "وجدت المحكمة أن المحاكم المحلية (في النمسا) قامت بتوازن دقيق بين حق المرأة في حرية التعبير، وحق الآخرين في حماية مشاعرهم الدينية، والحفاظ على السلام الديني في النمسا".
واعتبرت المحكمة أنّ تصريحات السيدة "تجاوزت الحد المسموح به في النقاش، وتصنف كهجوم مسيء على رسول الإسلام، كما تعرض السلام الديني للخطر".
وبدأت الواقعة عام 2009، عندما عقدت السيدة النمساوية ندوتين تحدثت خلالهما عن زيجات الرسول عليه السلام، وأطلقت فيهما تصريحات مسيئة للنبي.
وفي 15 شباط/ فبراير 2011، وجدت المحكمة الجنائية الإقليمية في فيينا أن هذه التصريحات "تهين المعتقدات الدينية"، وأيدت القرار محكمة الاستئناف في كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته، بعد أن طالبت السيدة بالاستئناف على الحكم".. انتهى الخبر.
هذا هو حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (وهي مؤسسة تعترف بها دول الاتحاد الأوروبي كلها، بما فيها فرنسا طبعا).. وبالتالي.. كل من يدعي أن ذلك الذي تنشره مجلة مثل "شارلي إبدو" يدخل ضمن حرية التعبير، أو ضمن مساحات العلمانية الرشيدة، عليه أن يعترف أمام نفسه أولا أنه يدافع عن رأي خاطئ، أو على أقل تقدير رأي مرجوح.
أقول ذلك دون أي تحفيز شعبوي، أو شحن ديني، أو تحريض طائفي، أو تحيز عرقي.. إنها لغة قانونية بحتة، كتبها قضاة أوروبيون، لا أظن أن فيهم مسلما أصلا..
* * *
خطأ كبير من بعض الأقلام الأوروبية والعربية التي تحاول أن تحاسب المسلمين (سواء الجاليات الإسلامية في أوروبا، أو المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها) على تطرف بعض المنتسبين للإسلام، وعلى عنف حدث في الفترة الماضية تستغله أبواق الدولة الفرنسية - وصهاينة العرب - لكي يخلطوا الأوراق، ويعمموا التهم على أمة كاملة..
هذا الكلام مرفوض جملة وتفصيلا، لأن مجرد الانسياق مع هؤلاء للدفاع عن النفس يعتبر تسفلا غير مقبول، ويعتبر هزيمة لا مبرر لها، وفيه شبهة قبول بالوقوف في قفص اتهام بحجم الكرة الأرضية، ولا أدري ما علاقة قولي أني أرفض إهانة الرسول الكريم، بأن ينتفض في وجهي إنسان متحذلق قائلا: "وهل تقبل بقتل المدرس الفرنسي؟".. لا يوجد أي شبهة تقتضي أن أقول إني أرفض العنف جملة وتفصيلا إذا قلت إنني أحترم معتقدات الناس جميعا.
لا علاقة لمن قتل عشرات المصلين في نيوزيلندا بمعتنقي دينه، ولا نجرّم إلا من يؤيد جريمته، هكذا يتعامل العقلاء مع هذه الأحداث، "كل نفس بما كسبت رهينة".
* * *
تصريحات الرئيس الفرنسي "ماكرون" التي تحدث فيها عن الرسومات وكأنها عمل مقدس خطأ كبير أيضا، تصريحاته ليست أكثر من حملة انتخابية مبكرة، فهو سياسي فاشل، ورئيس مفلس. والطريقة الوحيدة لكي ينقذ نفسه ويكسب دورة رئاسية أخرى هي اللعب بهذه الورقة، فيها يكسب أنظمة إسلامية منحطة نعرفها جميعا، وفي الوقت نفسه يقطع الطريق على اليمين الفرنسي، يريد أن يبدو يمينيا أكثر من اليمينيين، والمسلمون هم الحائط المائل الذي لا عواقب في اضطهادهم.
الغريب أن كثيرا من المؤشرات تدل على أنه سيقع في شر أعماله، وسيدفع ثمنا باهظا بسبب الملف الذي ظن أنه مجاني!
* * *
كل ما تحدثنا عنه يعتبر من قبيل الخطأ، أما الخطيئة.. فهي هؤلاء الذين يستكثرون على الناس أن يغضبوا من أجل نبيهم!
وغالبية هؤلاء مسلمون، يستكثرون على المسلمين أن يكتبوا على فيسبوك، أو أن يسيروا في تظاهرات رمزية، أو أن يغنوا للرسول.. وأكبر خطيئة هي هؤلاء الذين يسخرون من حملات المقاطعة للبضائع الفرنسية!
نقول لا تجوز إهانة النبي الكريم.. فيقرعون أسماعنا "وهل تقبلون قتل المدرس الفرنسي المغدور؟"، كلا يا سادة.. لا نقبل.. لذلك نتفهم أن تعبر الشعوب عن غضبها بالمقاطعة، وهي عمل سلمي بحت.
تجد هؤلاء يعيّروننا بأن الناس لا تعرف كيف تكون المقاطعة، وهذا حقيقي، ولكنه أمر طبيعي.
يسخرون من النتائج، بينما الجمهورية الفرنسية تراقب المقاطعة وهي تحبس أنفاسها.
ما الذي يضيركم في أن تكون المقاطعة خطأ؟ ألا يحق للشعوب أن تخطئ؟ وأن تتعلم من أخطائها؟ إذا كنتم دعاة سلام حقا، لماذا لا تتركون الشعوب تتحرك سلميا، بدلا من ترك دعاة العنف يملأون الساحة، ويخدرون مئات الملايين بحديث سطحي لا علاقة له بالإسلام؟
* * *
كثير من هؤلاء الذين يقللون من جدوى ردود فعل الشعوب لا يدركون أنها في غاية الأهمية، وأنها تترك آثارا فردية وجماعية كبيرة، فعلى سبيل المثال.. في عام 2008م أنتج بعض المهووسين المتطرفين العنصريين فيلما مسيئا للرسول عليه الصلاة والسلام "كان بعنوان فتنة"، وكان منتج الفيلم رجلا هولنديا متطرفا اسمه "أرنود فان دورن"، وبسبب ردود الفعل الغاضبة على هذا الفيلم، وبسبب تحرك مئات الملايين من المسلمين في العالم معبرين عن غضبهم.. قرّر هذا الرجل أن يفهم لماذا غضب كل هؤلاء، وشكّ في نفسه، وبدأ بالبحث والقراءة عن الإسلام قائلا "لا يمكن أن يكون كل هؤلاء مخطئين، ولا يمكن أن يكون غضبهم بلا مبرر".
هذا الرجل أصبح مسلما صالحا، وأصبح من الدعاة للإسلام، وهو اليوم يدعو لمقاطعة البضائع الفرنسية.. وكل ذلك بسبب ردود الفعل التي يحتقرها هؤلاء المتحذلقون!
إن تحرك الشعوب للدفاع عن قيمها عمل محترم، حتى لو استغله بعض السياسيين الانتهازيين، وحتى لو كان تعبير هذه الشعوب عن نفسها فيه بعض المبالغات والأخطاء، أو حتى بعض الاندفاع والجهل.. كل ذلك لا يغير من حقيقة أن من حق الأمة أن تغار على مقدساتها، وأن من يستكثر ذلك عليها يرتكب خطيئة، وهي خطيئة ناتجة عن هزيمة نفسية أمام الإنسان الأبيض.
مئات الملايين من المسلمين اليوم يشعرون بالخذلان التام، يرون القوى العظمى تتكالب عليهم، ويرون حكام المسلمين يسلمون الأقصى بأيديهم إلى الصهاينة، ويرون بأم أعينهم مقدساتهم تهان، وشعوبهم تنتهك.. وإذا تحركت الشعوب بأقل ما يمكنها.. بحقها المطلق في التحكم في الدراهم القليلة التي في الجيوب.. نجد البعض يرفع عقيرته ساخرا!
ما أعجب هذا الزمان، وما أشد انقلاباته، وما أسوأ نخبه!
twitter.com/arahmanyusuf
موقع إلكتروني: www.arahman.net
المواطنة "الماكرونية": المواطنة من جديد (24)
خالد الجندي.. في خدمة ولي الأمر إلى حين!