كتاب عربي 21

هل سمعتم بمحكمة المحاسبات؟

1300x600

حدث زلزال في تونس بسبب التقرير الذي أصدرته محكمة الحسابات، وهي من بين المؤسسات التي رأت النور بعد الثورة، ومهمتها مراقبة التصرف المالي للدولة والأحزاب والجمعيات. فالديمقراطية لا تتحقق على أرض الواقع إلا عندما تسندها منظومة من المؤسسات الرقابية التي تتصدى لكل أشكال تجاوز السلطة، وتفرض الشفافية على الجميع وتواجه النزوع نحو الاستبداد والانفراد بالحكم.

صحيح أن الديمقراطية التونسية لا تزال هشة، وتمر بصعوبات كثيرة ومتعددة المستويات، لكنها بقيت صامدة ولم تسقط في الفوضى ولم تعصف بها حرب أهلية، كما حصل في بلدان عربية أخرى سرق منها ربيعها.

يعود هذا الصمود إلى نوع من الحصانة الذاتية التي اكتسبتها تونس منذ انهيار الحكم الفردي. لم يقف هذا الانهيار عند حدود مغادرة ابن علي السلطة، وإنما ترتب عن ذلك تفكك عدد من الآليات التي كان يستند عليها الاستبداد، بدءا من تبخر الحزب الحاكم وانقسامه اللا متناهي، وصولا إلى تعدد مراكز التأثير على القرار السياسي وتوزيع صلاحيات السلطة. كما تم استبدال الدستور، ودخول البلاد مرحلة التعددية الحزبية. لكن الأهم من ذلك هو الشروع في تركيز مجموعة من المؤسسات والآليات التي تهدف إلى تقاسم السلطة ومنع احتكارها من قبل فرد أو حزب أو جماعة.

 

صحيح أن الديمقراطية التونسية لا تزال هشة، وتمر بصعوبات كثيرة ومتعددة المستويات، لكنها بقيت صامدة ولم تسقط في الفوضى ولم تعصف بها حرب أهلية، كما حصل في بلدان عربية أخرى سرق منها ربيعها

عندما ظنت حكومة المشيشي أن بإمكانها تمرير مشروع الميزانية التي أعدتها خلال ثلاث أسابيع فقط، واعتقدت بأنها قادرة على دفع البنك المركزي نحو ضخ عدة مليارات من أجل تغطية العجز الذي تعاني منه ميزانية الدولة، فإذا بمحافظ البنك المركزي يرفض طلبها بشكل علني وصريح، حيث اعتبر أن ما اقترحته الحكومة مخالف للقانون، وأن طبع أوراق مالية إضافية في السياق الراهن من شأنه أن يؤدي إلى تصاعد نسبة التضخم، وأن يرفع الأسعار بطريقة جنونية. وكانت النتيجة أن خضعت الحكومة لهذا الرأي، وسحبت مشروع الميزانية وقامت بتعديله.

من أين جاءت هذه الجرأة لدى محافظ البنك المركزي؟ يعود ذلك إلى الاستقلالية التي أصبح يتمتع بها البنك بعد الثورة، والتي نص عليها الدستور.

اليوم جاء دور محكمة المحاسبات التي اتهمت في تقرير الأخير المتعلق بالانتخابات التشريعية والرئاسية؛ عددا من الأحزاب مثل حركة النهضة وحزب قلب تونس إلى جانب شخصيات ترشحت للانتخابات الرئاسية، بمن في ذلك قيس سعيد، بالاعتماد على أطراف خارجية من أجل تمويل حملاتهم الانتخابية التي جرت قبل سنة أو الدعاية لهم وممارسة الضغط لصالحهم. تقرير ضخم، استند على سلسلة من التحريات، ووثق العديد من المعطيات التي إن صحت فإنها ستشكل منطلقا لمتابعة الذين أثيرت أسماؤهم قضائيا.

كما كان متوقعا، تبرأت الأحزاب التي وجهت إليها هذه الاتهامات، وأعلنت أن نفقاتها كانت شفافة مثلما فعل حزب قلب تونس الذي وجد نفسه مرة أخرى يواجه قصة اعتماد رئيسه نبيل القروي على مؤسسة ضغط أمريكية، كما كذبت حركة النهضة أن يكون لها مكاتب خارج البلاد، وأنها اعتمدت على دعم أعضائها في الداخل. أما الرئيس سعيد فلم يصدر عنه أو عن الذين أداروا معه الحملة الانتخابية أي رد سواء بالسلب أو الإيجاب.

 

هذه المحكمة التي سيصبح لها وزن وقول في حماية المسار الديمقراطي، كما سيكون لتقاريرها وأحكامها تأثير مباشر على المشهد العام

بقطع النظر عن هذه الردود، فالأكيد أن هذه المحكمة التي سيصبح لها وزن وقول في حماية المسار الديمقراطي، كما سيكون لتقاريرها وأحكامها تأثير مباشر على المشهد العام. فما توصلت إليه من تقييم، بعد مراجعتها للحسابات المالية لمختلف الفاعلين من حيث مصادر التمويل وأبواب النفقات، يمكن نظريا إن تمكنت من تنفيذ أحكامها والتي تصل إلى درجة إسقاط أعضاء في البرلمان، أن يؤدي إلى تغيير كبير للخارطة الحزبية في البلاد.

من هنا نفهم جانبا من العراقيل التي لا تزال تحول دون إنشاء المحكمة الدستورية رغم تعاقب الحكومات وتغير الأوضاع وموازين القوى. فالمحكمة الدستورية التي لم تر النور ستصبح أقوى مؤسسة في تونس ما بعد الثورة، باعتبارها ستكون الجهة الوحيدة القادرة على حماية الدستور من أي تأويل فاسد، كما أنها ستكون الحكم بين جميع الأطراف سواء داخل البرلمان أو خارجه في حال نشوب خلاف بينها حول فصل من فصول الدستور. عندها سيفقد رئيس الجمهورية نفسه الحق في تأويل أي مسألة دستورية دون الرجوع إلى هذه المحكمة.

أكيد أن الذين يشكون في التجربة الديمقراطية التونسية، يفعلون ذلك عن عمد لأنهم يدركون أن منظومة المراقبة المعتمدة في هذه البلاد من شأنها أن تمنع الطغاة من ممارسة هوايتهم المفضلة، وهي الظلم ونهب الثروات بعيدا عن عيون الرقباء.