لم يكن اقتحام أنصار
ترامب لمبنى الكونغرس الأمريكي، في السادس من كانون ثاني/ يناير الماضي حدثاً مفاجئاً، فالغزوة التي أسفرت عن مقتل خمسة أشخاص (بينهم ضابط) وإصابة آخرين داخل بيت العبادة الأقدس للديمقراطية الأمريكية، جاءت تتويجاً
لحقبة رئاسية أمريكية فريدة شهدت تنامياً مطرداً للظاهرة الترامبية التي تُعد تعبيراً عن صعود التزعة
الفاشية والقومية البيضاء والشعوبية، وبتحريض صريح من الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب. فما حدث لم يكن مظاهرة سلمية فقدت السيطرة وضلت طريقها حسب الخبراء والمحللين والسياسيين، فقد وُصف الحدث بنعوت عديدة قاسية باعتباره "انتفاضة عنيفة"، و"تمرد مسلح"، و"محاولة انقلاب"، و"عملية إرهابية".
كشفت غزوة الكونغرس عن
مجتمع أمريكي منقسم على ذاته بحدة، إلى حدود الردكلة والتطرف العنيف والإرهاب والفاشية. إذ لا يمثل ترامب في شخصه التهديد الفاشي، وإنما الترامبية كاتجاه أيديولوجي. فالولايات المتحدة قابلة للسقوط في المستنقع الأيديولوجي للفاشية، والجموع التي اقتحمت الكابيتول لم تكن آلات تتبع خطة ترامب وخطاباته بـ"استعادة أمريكا"، بل ذوات فاعلة تؤمن أن أمريكا مختطفة بالفعل، وهم مقتنعون كقناعة ترامب أو أشد بأن الانتخابات قد سُرقت وأن من واجبهم استعادة ما سرق بالقوة، رافعين أعلام الكونفدرالية، وأعلام الجنوب القديم (الأبيض) العنصري.
كشفت غزوة الكونغرس عن مجتمع أمريكي منقسم على ذاته بحدة، إلى حدود الردكلة والتطرف العنيف والإرهاب والفاشية. إذ لا يمثل ترامب في شخصه التهديد الفاشي، وإنما الترامبية كاتجاه أيديولوجي
إن الترامبية هي تعبير عن نزعة فاشية أمريكية فريدة، وترامب فاشي بطريقة لا لبس فيها. فالفاشية كما يعرِّفها المنظر الشيوعي البلغاري جورجي ديمتروف "ديكتاتورية إرهابية غير محدودة، وهي الأكثر رجعية وشوفينية، وتعبر عن أكثر العناصر إمبريالية في المنظومة الرأسمالية". ويمكن أن نستقر على تعريف مفيد للفاشية باعتبارها اندماجاً لسلطتي الدولة ورأس المال في سياق سلطوي يوظِّف
العنصرية القومية.
وحسب إيريك دريستر، فإن مشروعا تفوقيا أبيض، أبويا، إمبرياليا، واستعماريا- استيطانيا مثل الولايات المتحدة، مبنيا على العبودية، والنهب، والإبادة الجماعية كما كان حاله، يمكن أن ينزلق أكثر إلى الهاوية. وترامب هو شخص فاشي حسب دريستر، الذي يتساءل: كيف يمكنني اقتراح أن أحداً لا يناقش تهديد الفاشية في أمريكا عندما يتم تخصيص الكثير من الحِبر لمغازلة ترامب، أو احتضانه للكثير من عناصر الفاشية الكلاسيكية؟
لا جدال في أن ترامب لم يخترع التفوقية العرقية البيضاء التي تنحدر إلى حدود الفاشية، لكنه أمدها بمستندات وإمكانات وخطابات خلال ولايته. فترامب كائن فريد له أيديولوجية انتهازية خاصة تقوم على تحقيق النجاح الشخصي والأوهام النرجسية، بينما ظهرت القومية البيضاء الحديثة، التي انتشرت في جميع أنحاء العالم، لأول مرة في أمريكا بعد الحرب الأهلية. فمع نهاية حقبة العبودية، اتخذت الولايات الأمريكية إجراءات من أجل الحفاظ على المكانة المتميزة للبروتستانت الأمريكيين من أصحاب التراث الأوروبي الغربي، بما في ذلك قوانين "جيم كرو" التي فرضت الفصل العنصري، ولجأ آخرون إلى العنف شبه العسكري وعمليات القتل والإعدام خارج القانون.
خلال سنوات ولايته الأربع الماضية برزت شخصية ترامب كانتهازي نرجسي عديم الصلاح، كاذب منتظم، شعبوي سائب وديماغوجي، لكن على الرغم من ذلك، صوت له 75 مليون أمريكي، الأمر الذي يؤشر على خطر الترامبية كأيديولوجا. فما فعله ترامب هو أنه حشد معاً مجموعة من القوى السياسية اليمينية الرجعية الغاضبة التي شرعت في تنظيم نفسها، ولن تعدم هذه القوى العثور على من يمثلها في المستقبل، حيث نجح ترامب في غرس بذور سامة في أرض مسمومة أصلاً.
ففي شباط/ فبراير الماضي، أصدر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كريستوفر راي، تحذيراً مباشراً للكونغرس من أنَّ "المتطرفين العنيفين ذوي الدوافع العنصرية والعرقية أصبحوا المصدر الرئيسي للتهديدات الإرهابية المحلية وجرائم القتل". وقد تفاقمت مخاوفه بسبب تزامن الوباء مع الأفعال الفجة لدونالد ترامب.
تشجيع ترامب لحملات الاستعراض والاحتجاجات المسلحة في شوارع المدن الأمريكية، أدى إلى تنامي قوة ونفوذ الجماعات اليمينية المتطرفة التي تنادي بتفوق العرق الأبيض، وصعدت إلى الواجهة مجموعات ومليشيات متطرفة
إن تشجيع ترامب لحملات الاستعراض والاحتجاجات المسلحة في شوارع المدن الأمريكية، أدى إلى تنامي قوة ونفوذ الجماعات اليمينية المتطرفة التي تنادي بتفوق العرق الأبيض، وصعدت إلى الواجهة مجموعات ومليشيات متطرفة، أمثال "جماعة الثلاثة في المائة" أو "حفَظة القسَم"، والعصابات الفاشية مثل "الولد الفخور"، وغيرها من التشكيلات الأخرى من اليمين المتطرف. ومن الواضح أن الترامبية تعمل على تنامي هذه التوجهات، وزيادة التعاون بينها، وتساهم في تطورها وخلق تحول في السياسة الأمريكية المحلية باتجاه تشكيل كتلة سياسية فاشية بنكهة أمريكية.
تبدو قابلية التحول نحو الفاشية لدى الأمريكيين مع بروز الترامبية كبيرة، فعقب تجمُّع التفوقيين البيض في تشارلوتسفيل في آب/ غسطس 2017، الذي أسفر عن مصرع شخص وإصابة 19 آخرين، وجد استطلاع أجرته صحيفة "الواشنطن بوست" ومحطة "إيه. بي. سي" أن 9 في المائة من الأمريكيين تقريباً (نحو 22 مليون شخص) يعتقدون أن من المقبول اعتناق وجهات نظر النازيين الجدد والتفوقيين البيض. وعندما اندلعت احتجاجات "حياة السود مهمة" في جميع أنحاء الولايات المتحدة في أعقاب مقتل جورج فلويد على يد الشرطة في أيار/ أيار الماضي، حوَّلت الجماعات المتطرفة انتباهها في هذا الاتجاه، تلت ذلك احتجاجات مضادة، بلغت ذروتها في بعض الحالات بإراقة الدماء. وفي آب/ أغسطس، قُتِل اثنان من المتظاهرين وأصيب ثالث على يد المراهق كايل ريتنهاوس، الذي أصبح نجماً في وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة، دون أي إدانة من ترامب.
خلاصة القول أن الفاشيّة ليست بالتجربة المنعزلة أو الفريدة عبر مجمل التاريخ البشري، ويبدو أن غزوة الكونغرس تشير إلى تنامي خطر صعود فاشية بنكهة أمريكية. وإذا كان ترامب قد أصبح من الماضي، فإن الترامبية قد تصنع المستقبل. فعندما انتخب ترامب رئيساً قبل أربع سنوات كان المجتمع الأمريكي منقسماً أصلاً، فالعنصرية والظلم وعدم المساواة لم يجلبها ترامب إلى أمريكا من خارجها، لكنه عمل على تعميقها واستثمارها بخطاباته وممارساته العنصرية والشعبوية.
ويبدو أن ولاية بايدن القادمة ستنشغل بإزالة آثار الترامبية التي أشّرت على خطر الانزلاق نحو الفاشية، وربما سنشهد عنفاً متصاعداً لجماعات اليمين المتطرف، في ظل تراجع دور الولايات المتحدة كقوة عظمى قبل قدوم ترامب الذي ساهم فقط في زيادة حدة الأزمة التي كانت تعاني منها قبل انتخابه، وساهم في تنامي حدة النزاع العرقي والانقسامات السياسية والثقافية الواسعة في الولايات المتحدة، وهو نزاع تعود جذوره إلى فترة العبودية والحرب الأهلية الأمريكية.
twitter.com/hasanabuhanya