يحاول اليسار التونسي جاهدا أن يتجنب "الموت السريري" الذي يلاحقه باستمرار، وتندرج المسيرة التي نظمها بشارع الحبيب بورقيبة يوم السبت الماضي (6 آذار/ مارس) ضمن هذه الجهود المتواصلة، لكن دون جدوى. فرغم اشتراك عشرة أحزاب إلى جانب جمعيات مدنية لها تاريخ في تونس مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وجمعية نساء ديمقراطيات، لم يتجاوز عدد المتظاهرين 300 شخص، وهو ما أثار استغراب المراقبين، وجعلهم يتساءلون عن الأسباب التي جعلت الحركة اليسارية تتقلص إلى هذا الحد، وتصبح غير مؤثرة على الحياة السياسية في تونس بعد الثورة.
رغم هذه المحاولات غير الموفقة بقي اليسار مشلولا، وغير قادر على التعبئة والاستقطاب. لقد توفرت الشروط الموضوعية لكي يصبح اليسار قوة سياسية ضاربة في بلاد تنخرها الأزمات المختلفة؛ فالفقر يزحف، والبطالة تتسع، والدين الخارجي يتضاعف، والبنية التحتية تتآكل، والفساد يمتد في كل الاتجاهات، والخدمات الاجتماعية تنهار، والغلاء الفاحش يحاصر المواطنين، وهي عوامل مساعدة جدا للحركات اليسارية التي تنطلق دائما من تدهور الاقتصاد وتصاعد غضب الفئات الضعيفة وتدهور القدرة الشرائية للطبقة الوسطى، وتعمل على استثمار ذلك سياسيا، فتتقدم الصفوف، وتجعل من نفسها الناطق الوفي باسم المسحوقين، والحامل لآلامهم ومطالبهم، وتعدهم بالعدالة الاجتماعية في حال وصولها إلى السلطة بفضل أصواتهم خلال الانتخابات. هذا ما حصل في دول كثيرة، سواء أكانت في أوروبا أو أمريكا اللاتينية أو بغيرها.
بقي اليسار مشلولا، وغير قادر على التعبئة والاستقطاب. لقد توفرت الشروط الموضوعية لكي يصبح اليسار قوة سياسية ضاربة في بلاد تنخرها الأزمات المختلفة
في تونس يحصل العكس تماما، فبدل أن يتقدم اليسار نحو الأمام نراه يتراجع نحو الخلف، وكلما فشل في أمر ما، وبدل أن يراجع نفسه ويغير فكره ويعدل خططه، وينظر إلى الواقع المحلي والعالمي بمنظار جديد، نراه يواصل السير في الطريق المسدود نفسه، ويعيد اجترار الخطاب نفسه، ويكرر الاعتماد على الخطط التي ثبت عقمها، ويصر على إعادة ارتكاب ذات الأخطاء القاتلة. كل ذلك يؤكد أن اليسار التونسي قد حكم على نفسه بالموت البطيء، وأصبح غير قادر بنيويا على تصحيح مساره وإنقاذ نفسه من انتحار بات وشيكا.
حاول الحزب الشيوعي التونسي أن ينقذ نفسه من هذا المصير منذ عشرات السنين، سواء قبل استقلال البلاد أو بعده. دفع ثمنا غاليا، حيث فشل في استقطاب الأنصار، وقبل بتجميد نفسه لسنوات طويلة، وعندما عاد إلى النشاط العلني وجد نفسه مضطرا لتغيير الاسم واللافتة والشعارات، لكن ذلك لم يشفع له، ولم ينقذه من مصيره المحتوم، فأعلن عن موته بنفسه بعد أن رأى كوادره تتفرق وتتوزع على الأحزاب الأخرى، ومنهم عدد واسع تفرغوا لشؤونهم الخاصة واكتفوا بالاهتمام بعائلاتهم وأحفادهم. حصل المصير نفسه مع تجربة آفاق التي كانت واعدة في البداية، لكنها تلاشت تدريجيا وتحولت إلى أفراد، بعد أن اختار كل واحد منهم طريقه الخاص.
ثم نشأت تنظيمات اليسار الراديكالي التي قدمت نفسها كبديل ثوري، توغلت في مسارب
الأيديولوجيا، واحتضنت آلاف الشباب، واختلفت فيما بينها حول المصطلحات والزعامات، وتصارعت من أجل الدفاع عن تجارب اشتراكية في العالم، سبق لها أن قدمت وعودا قبل أن تنهار مثل جبال الثلج.
وفي لحظة ما، سعى شخص اسمه شكري بلعيد نحو تجميع هذا الشتات، وبناء اليسار الكبير. نجح فعلا في تأسيس الجبهة الشعبية التي ضمت تنظيمات صغيرة حافظت على وحدتها وزعاماتها. هذا الزعيم الملهم تمكنت منه يد الغدر واغتالته قبل أن يكمل مسيرته، وبفضل دمه تمكنت الجبهة من دخول البرلمان بعد أن خاضت الانتخابات التشريعية في 2014، ونجحت في بناء كتلة نشيطة ومؤثرة. لكن فجأة انهار البناء وتبخرت الكتلة، وعاد كل تنظيم إلى مربعه الصغير، فكانت تلك نهاية الحلم، الذي لم يبق منه سوى سراب يناوش من حين إلى آخر عناصر قليلة تصارع الأمواج المتلاطمة، وترفض الاستسلام.
لكن عندما نزلوا إلى شارع الثورة لم يجدوا ذلك الشباب الغاضب، ولم يجدوا أيضا القادة الجدد للحركات الاجتماعية التي حركت الشارع ونظمت احتجاجات الأشهر الأخيرة
ظن هؤلاء أنهم على موعد مع شباب الأحياء الفقيرة الذين خرجوا من بيوتهم الضيقة والبائسة نهارا وليلا، من أجل المطالبة بالخبز والكرامة، واصطدموا بقوات الأمن، وتم اعتقال ألفين منهم على الأقل ووضعوا بالسجون، ظنوا بأنهم ينادونهم ويطالبونهم بأن يقودوا الهبة الاجتماعية الجديدة. في ضوء ذلك، اعتقدت تنظيمات اليسار بأن لحظة استعادة دورها قد حانت من جديد، فأعلنت انطلاق الثورة الثانية، وطالبت بإسقاط النظام والمنظومة، وتصدت لأعدائها القدامى
والجدد (التجمع والإخوان). لكن عندما نزلوا إلى شارع الثورة لم يجدوا ذلك الشباب الغاضب، ولم يجدوا أيضا القادة الجدد للحركات الاجتماعية التي حركت الشارع ونظمت احتجاجات الأشهر الأخيرة!!
السؤال المطروح: لماذا أحجم هؤلاء عن
المشاركة في المسيرة رغم علمهم بها وبالهدف منها؟ ولماذا رفض الجيل الجديد من النشطاء والفاعلين الميدانيين عن الالتحاق بتنظيمات اليسار؟
هناك أزمة ثقة عميقة بين جيلين؛ جيل استهلكه الانغماس في الشأن السياسي، ومزقته الصراعات التنظيمية والأيديولوجية، مقابل جيل جديد يبحث عن أفق مغاير، ويريد أن يمارس حقه في النضال من موقع مستقل، جيل يرفض وصاية "الكبار" الذين لا يزالون يعتقدون بأنهم أدرى بالحاضر والمستقبل، وأولى بالقيادة.