يُعَدُّ الدكتور عبد اللطيف الحناشي، أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن ـ جامعة منوبة ـ تونس من أهم الباحثين الأكاديميين التونسيين في الشؤون الفلسطينية، فقد جسد التزاما مبكرا بالقضية الفلسطينية، وعيا وممارسة، منذ أن كان طالبا بجامعة دمشق في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وانخراطه في صفوف المقاومة الفلسطينية، لا سيما مع فصيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
كانت جامعة دمشق محطة تاريخية ومفصلية في تكوينه الأكاديمي، وفي تكوينه أيضا على الصعيد المعرفي والفكري والسياسي، فهو يتبنى المشروع القومي الديمقراطي النهضوي، الذي كان من أبرز مؤسسيه المفكران الراحلان: إلياس مرقص وياسين الحافظ، وهو المشروع الذي لا يزال على جدول أعمال الأمة العربية، باعتباره يشكل تخطيا ديالكتيكيا للمشروع القومي العربي الرومانسي بشقيه البعثي والناصري، الذي هُزِم هزيمة تاريخية عادلة أماما المشروع الإمبريالي الغربي والمشروع الصهيوني، بسبب عدم ديمقراطيته.
وللدكتور عبد اللطيف الحناشي العديد من الأبحاث الأكاديمية المنشورة، وكذلك العديد من الكتب، نخص بالذكر منها: السلفية الجهادية في تونس: من شبكات الدعوة إلى تفجير العقول، منتدى العلوم الاجتماعية التطبيقية الدار التونسية للكتاب، تونس 2020. تطور الخطاب السياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية 1920 ـ 1955، (المطبعة الرسمية ـ تونس) 2006 352 صفحة. طبعة ثانية: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،بيروت جانفي 2016 ،359 صفحة.
التقته مؤخرا "عربي 21"، وكان معه هذا الحوار حول تشكل الوعي عنده بشأن القضية الفلسطينية.
الوعي المبكر لفلسطين في زمن الصراع بين بورقيبة وعبد الناصر
بنت الدولة التونسية موقفها من القضية الفلسطينية على أساس قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة، المعروف بالقرار الرقم 181. وانتهج الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة سياسة خارجية معادية للقومية العربية والعروبة، بحكم الخلاف المستحكم بينه وبين الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، حتى إنَّ الرئيس التونسي أعلن في خطاب له في أريحا عام 1965 اعترافه بقرار التقسيم، وطالب الفلسطينيين بالاعتراف بالأمر الواقع والقبول بـ "دولة فلسطينية" في الضفة الغربية وقطاع غزة، ضمن سياسة "خذ وطالب ".
وقد اتُّهِمَ بورقيبة في حينه من قبل الأنظمة الوطنية والتقدمية والأحزاب اليسارية والقومية العربية بـ "خيانة" قضايا الأمة العربية، خصوصا عندما أكَّد مقولته الشهيرة؛ "إنَّنا مع ما يختاره الفلسطينيون لأنفسهم"، في إشارة واضحة إلى رفع وصاية الأنظمة العربية على الفلسطينيين، وهي المقولة التي طورتها قيادة ياسر عرفات لاحقا، في إطار استغلال التناقضات العربية الرسمية، وأطلقت عليها مصطلح "القرار الفلسطيني المستقل.
ويمكن أن نجد في مؤتمر المغرب العربي الذي انعقد في القاهرة في شباط / فبراير 1947، وفي الوثائق التي أعدتها الأحزاب المغاربية لمؤتمر الاشتراكيين العرب في الجزائر عام 1967، وفي مواقف العاهل المغربي الملك محمد الخامس ومن بعده الملك الحسن الثاني، توجهات سياسية بشأن الاعتراف بالقرار الرقم 181، ومن ثم إيجاد تسوية للصراع العربي ـ الصهيوني وفق قرارات الشرعية الدولية.
في حديثه مع "عربي21"، يتحدث الدكتور عبد اللطيف الحناشي عن وعيه المبكر للقضية الفلسطينية، فيقول: كان ذلك في أحد أيام شهر آذار (مارس) عام 1965 خرجنا من المدرسة الساعة الثالثة مساء، فوجدنا أمامنا عشرات من الأشخاص من أعمار مختلفة يسيرون بسرعة منادين بحياة بورقيبة، لاعنين الرئيس المصري جمال عبد الناصر وواصفين المصريين بأنهم "شعب البقشيش". وبسرعة لبَّى أغلبنا الالتحاق بهم وأخذنا نردّد هتافاتهم نفسها، دون دراية بمضمونها أو الأسباب الداعية لذلك، فقط كنا نعرف بورقيبة رئيس تونس ونعتز به كما غيرنا.
سرنا عشرات الأمتار وانسحبنا باتجاه منازلنا بعد أن أصابنا التعب. في المنزل، سألني الوالد رحمه الله عن سبب تأخري في الرجوع إلى البيت؟ فحدثته بشيء من الافتخار عن مشاركتي ذاك الجمع، مرددا عليه ما كنّا نردّد في أثناء "المسيرة". ضحك الوالد بل قهقه عاليا، أما ابن عمّه الشاب، الذي كان إلى جانبه والمقيم عندنا منذ مدة ليست بالقصيرة، نهرني مصرخا في وجهي؛ إن "بورقيبة باع تونس ويريد الآن أن يبيع فلسطين أيضا".
لم أفهم ما قاله ابن عمّ العم، غير أنّي كنت أعرف تونس (اسما) وهي بلدي، فإني سمعت لأول مرَّة بشيء اسمه فلسطين، ولم أكن أعرف أنها بلد أو وطن، في حين كنت أسمع باسم عبد الناصر من خلال الراديو الذي كان يفتحه والدي كل مساء في محطة إذاعية. كنت أحسب أنَّ اسمها هنا القاهرة، فيما بعد عرفت أنها إذاعة "صوت العرب"، كما كنت أعرف أن الجزائر كان "يوجد فيها الفرنسيون" وأذكر كيف أن والدي بكى وصرخ، وهو يسمع الراديو يعلن استقلال الجزائر في أحد الأيام عام 1962.
وفي الغد، سألت زملائي الذين شاركوا معي في حدث الأمس، وبدورهم كانوا يجهلون اسم فلسطين. وظل هذا الاسم غامضا إلى حدود الصيف، عندما قدم إلى بيتنا طالبان من سكان الحيّ لزيارة ابن عمّ العم، كانا قد عادا توّا من العاصمة لقضاء العطلة الصيفية، وفي أثناء حديثهم (وهم جالسون وسط البيت)، سمعتهم يتحدثون عن بورقيبة الذي زار فلسطين التي يحتلها الصهاينة، وكيف تم قذف بورقيبة بالطماطم في أثناء زيارته إلى فلسطين، وخروج مظاهرات في عدة بلدان (ذكروا أسماءها)، وكيف حاولوا بدورهم أن يتظاهروا في تونس، غير أنهم لم يتمكنوا من ذلك، واستغربت كيف أنهم لم يتمكنوا من القيام بذلك هناك، في حين تمكن العشرات هنا في المدينة من الخروج، كما استغربت كيف يتجّرؤن في سبّ بورقيبة رئيس تونس والاعتداء عليه.
وأذكر أني لم أسمع باسم فلسطين مرة أخرى إلا بداية شهر حزيران/يونيو 1967 وهذه المرة في المعهد الذي كنت أدرس فيه (قبل العطلة الصيفية)، عندما حدثنا أحد أساتذتنا هذه المرة عن إسرائيل وكيف تمكنت من الانتصار على العرب الذين لم يأخذوا بنصيحة بورقيبة، في حين حدّثنا أستاذ آخر بعين دامعة عمّا جرى وعن دور أمريكا في نصرة إسرائيل، ولولا ذلك لما تمكنت إسرائيل من الانتصار.
وأذكر أني وقفت مع جموع الناس على الطريق الدولية ونحن نصفق في توديع "الفيلق" التونسي، الذي أمر الرئيس بورقيبة بإرساله إلى مصر لدعم الجيش المصري. وبعد أسابيع، كنا نسمع في أحد ليالي الصيف لثلاثة من الطلبة العائدين من العاصمة، يتحدثون عن المظاهرات التي جرت في شوارع العاصمة تنديدا بالعدوان الإسرائيلي في حزيران/يونيو1967، وكيف تم حرق أحد المؤسسات الأمريكي، و"مهاجمة" بعض أملاك اليهود واشتباكهم مع الأمن؛ متهمين النظام بالتواطؤ.
سيرة مفتي غزة الشيخ محمد أحمد ساق الله (1812- 1896)
المخيم.. شاهد على تهجير اللاجئين الفلسطينيين ومحطة للعودة للديار
الثوب الفلسطيني عمره 3 آلاف سنة ولا يزال رمزا للهوية العربية