يبدو أن الأمور في
فرنسا تتجه إلى مزيد من التعفن، ولا توجد مؤشرات عن تراجع أو تحسن، فقد تعود المسلمون على أن ما يخسرونه غير قابل للاستعادة منذ "قضية خمار كراي" بداية التسعينات، وبدء مضايقة الفتيات المحجبات ومن ثم طردهن من المدارس.
وما يخسره المسلمون في فترة الانزياح الفاشي الحالية هي حقوق جوهرية يحيلهم فقدانها إلى ما يشبه "المورو" أو "الزنديجان" مع حفظ الفوارق طبعا. وأهم الفوارق أن العالم تقارب حتى أصبح حيا واحدا، وأن وسائل الاتصال جعلت تزوير الواقع وتغطية عين الشمس بغربال الدعاية غير ممكن، كما أحالت أحلام قطع الألسنة وإخراس الضحايا أوهاما فاشية بطل زمانها.
يمكننا بداية القول بأن السلوك الحالي لنخبة الحكم و"الإعلام" الفرنسي يحكمه موجهان اثنان:
1- موجه عام لدى كل الأنطمة، قائم على مواجهة الأوضاع الصعبة ومآزق الحكم، مستميتة لحرف الانتباه وتزوير الوعي والبحث عن أكباش فداء يتم استهدافها، إما بتحميلها مسؤولية المصاعب مباشرة، وإما باختلاق مخاطر لا وجود لها وبتضخيمها لغرض إلهاء الشعب عن حقيقة الأوضاع وعن مسؤولية الحكم.
ويمكننا أن ندرج في هذا الإطار "التوظيف الانتخابي" للعنصرية ولكراهية الإسلام، وهو توظيف يشترك مع ما سبق في تقنية حرف الانتباه وتزوير الوعي، وتجنب الخوض في المواضيع الحقيقية الشائكة.
2- ولئن كان يمكننا وصف الموجه الأول بالظرفية والوقتية الانتهازية، وربما بالسطحية، فإن للموجه الثاني على العكس من ذلك جذورا معقدة ضاربة في التاريخ القديم والحديث، ويمكننا تلخيصها كالتالي:
أ- مخلفات التاريخ الصليبي للعصور الوسطى وصورة الإسلام المشوهة التي كانت مركز "المحاججة" الدينية والتعبئة والتجنيد، وقد تحول كل ذلك إلى محاججة "لائكية" وتجنيد فاشي ينهل من نفس المنهل..
ب- ترسبات التاريخ الاستعماري الذي لم يتم "هضمه" ولا يزال يمثل حقل ألغام للنخبة الفرنسية التي لا تكاد تتقدم خطوة في هذا الشأن حتى تتأخر خطوات، وهي عاجزة أو غير راغبة في تجاوز مخلفات تلك الحقبة والاعتراف بفظائعها وجرائمها، بل على العكس، تسعى لتدريس "محاسن" الاستعمار وفوائده "التنويرية"، وربما تكون الجزائر أبرز مثال على ما سبق من حيث الرغبة في إغفال مرحلة استعمارها ومرحلة تحررها على السواء.
ج- الحقبة المسماة بفترة "العار" حينا وبفترة "الوشاية" (لا ديلاسيون) أحيانا تحت حكم فيشي، بعد الهزيمة المذلة والوقوع في قبضة النازية.
لم تفتح ملفات تلك الفترة الحارقة في تاريخ فرنسا الحديث، وتم اعتبارها "صندوق العفاريت" الذي يجب أن يظل مغلقا لاجتناب أوجاع الذاكرة، وللتغطية على جبن النخبة وانخراطها في المشروع الفاشي، قبولا أو سكوتا، واكتفائها بعد انهزام النازية بأكباش فداء نسيهم التاريخ، وبالسماح للشعب الفرنسي بسحل المتعاونين مع النازية في الشوارع لتنفيس الغضب، ومن ثم طي الموضوع والخياطة على جروح الذاكرة دون تطهير..
وبناء عليه، فإن كل ما يمكن أن يطرح من نقد لأوضاع المسلمين أو المهاجرين أو الأفارقة ولسلوكياتهم لا يصلح لتفسير الاستهداف الحالي، فضلا عن تبريره بأي وجه من الوجوه.
كما أنه لا يمكننا دس رؤوسنا في التراب واعتبار ما يجري مجرد مناورات "انتخابية" مقرفة ستنتهي بنهاية الاستحقاقات القادمة، إذ البداهة وما مر بنا منذ "خمار كراي" يسفّه هذا الرأي.
ونتيجة كل ما سبق هو ما نراه من استهداف للإسلام والمسلمين وللأقليات عموما في فرنسا، والذي لم يفتأ يتصاعد ويتخذ له شرعية متزايدة خارج حاضنته التاريخية أو ما يسمى أقصى
اليمين المتطرف، ويمتد يمينا ويسارا، حتى أصبح أهل الحكم يعيبون على الحزب المتطرف "ميوعة" مواقفه من الإسلام..
ولعل أبرز ما يخيف القائمين على الاستهداف الحالي هو تشبيههم بنخب العار و"الوشاية" أثناء حكم فيشي، وتذكيرهم بالخطاب والسلوك المشابه والمقلد لتلك الفترة المظلمة من تاريخ فرنسا. ففي مقابل "الإسلام اليساري" نجد "اليهودية البولشفية"، وبإزاء تشجيع الفرنسيين على التجسس على جيرانهم اليهود والوشاية بهم، نجد الدعوة لمراقبة المسلمين والوشاية بهم.. ولعل الهستيريا التي أصابتهم من "الهلال الأصفر" تعبر عن هلعهم من أن يوضعوا وجها لوجه مع صورة سلوكهم المشابه والمقلد لتاريخهم الشائن والمكبوت.
ولن يمكننا الانتقال إلى الحديث عن كيفية المواجهة ما لم نتفق عموما في قراءة الأسباب واستشراف المآلات.
أما المآلات فهي سيئة جدا، ولا تحتاج بذل جهد كبير لتصورها، ويكفي استذكار المقولة المنسوبة لكارل ماركس أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا في شكل مهزلة، ونحن نعيش تسارع خطوات المهزلة، أو الملهاة، في انتظار المأساة، ما لم نتحرك.
يحتاج التفكير في سبل التعامل مع الانزياح الفاشي إلى الإشارة إلى التاريخ الديني لفرنسا في العصر الوسيط، والحروب الدينية المدمرة بين الكاثوليك والبروتستانت، ثم الصراع ضد الكنيسة بعد الثورة الفرنسية، وصولا إلى الاتفاق التاريخي للفصل بين السلطة الكنسية والسلطة المدنية المعروف بقانون 1905، والذي استقر عليه الحال دون مشاكل تذكر إلى حدود بداية التسعينات، مع ظهور الإسلام وتجذره على الساحة المجتمعية الفرنسية.
والآن، وبعد قرابة ثلاثين سنة من محاولات المواءمة المخاتلة بين مقتضيات القانون الذي يمنع السلطة المدنية من التدخل في شؤون الأديان من جهة، وبين الرغبة الجامحة في التضييق على الإسلام ومحاصرة المسلمين والتدخل في عقائدهم وسلوكهم من جهة أخرى، قررت النخبة الحاكمة التحرر من مقتضيات القانون تماما، وتحويل اللائكية بقانون جديد من وجوب الحياد تجاه الأديان، إلى "دين" جديد يستعمل قوة قانون الدولة لفرض "مقدساته" على الإسلام، باعتباره دين الأقلية غير ذات الشأن والشوكة.
ويعتبر هذا التعاطي ردة على كل مكتسبات المجتمع الفرنسي وتهديدا لشروط العيش المشترك، واستعادة لتاريخ الاضطهاد الديني الذي تعرض له البروتستانت، ولما تعرض له اليهود في الحرب العالمية الثانية.
ولم تغفل الجمعيات المدنية ورجال السياسة المعارضون عن ملامح هذه الردة، ولا يتردد ميلونشون مثلا في التذكير بهذه الحقب والأحداث..
وبناء عليه، يجب عدم الوقوع في فخين اثنين في التعاطي مع هذه الأزمة:
1- فخ الانعزال الفكري والحركي إذ أن التهديد يشمل قيم العيش المشترك، وهذا يتطلب أن يدافع المسلمون عنها ضمن جبهة عريضة تضم كل المقتنعين بعبثية السياسات الحالية وخطورتها على تماسك البلد ومستقبله.
2- فخ الاستسلام والخوف والبحث عن الخلاص الفردي والفئوي، والالتجاء لحكم "الضرورة القهرية" لتسويغ قبول ما لا يقبل، وكأننا في زمن غير الزمن ونظام غير النظام.
إن المجتمع الفرنسي ليس حقلا خصبا للفاشية وللكراهية والتقسيم، بل على العكس من ذلك، مما يعني أن لا نتردد كمسلمين في رفض كل إجراء يعتبر تدخلا سافرا في ديننا وعقيدتنا، وهو بالتأكيد حق يكفله قانون 1905، ولا يجب أن نقبل بالمس به باعتباره من الحقوق الإنسانية الأساسية.
ها هنا تنتهي الورقة، تاركة أمر ما يجب فعله إلى ساحة يجب أن تكون مكوناتها متنوعة وشاملة لكل من لا يرغب في أن تنضم فرنسا إلى قائمة بلدان اضطهاد المسلمين..