ظلت مدينة
حلب السورية توأم إسطنبول طوال فترة حكم السلاطين العثمانيين، فمع كل خدمة تفد إلى إسطنبول كانت حلب المدينة الثانية التي تحظى بها على الفور. ولعل هذا مردّه إلى كونها المدينة الأبرز في العقلية العثمانية التاريخية قبل سيطرة محمد الفاتح على إسطنبول؛ إذ كانت حلب المدينة الأكبر والأشهر في بداية ظهور العثمانيين.
تلك المقدمة مفتاح لإدراك واستيعاب ما يعنيه فتح قنصلية
إيرانية في حلب، حيث مرّ خبرها مرور الكرام دون تعليق أو اهتمام إعلامي، وسط زحمة انشغال العالم كله بالغارة الصهيونية على الأقصى، والهولوكوست الصهيوني المتجدد على غزة، وترافق إعلان افتتاح القنصلية على لسان وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، مع إعلان الرئيس الإيراني حسن روحاني عن إطلاق سكة حديد من إيران مروراً بالعراق إلى
سوريا فالمتوسط، وهو تهديد إيراني مباشر آخر ستكون له تداعياته على
تركيا وأمنها لاحقاً.
إنّ المسافة بين حلب وغازي عنتاب تساوي تقريباً المسافة بين جلال آباد الأفغانية وبيشاور الباكستانية. مربط فرس الربط بين الحدثين والمكانين هو أن باكستان التي انضمت للتحالف الدولي عشية خلع حركة طالبان الأفغانية عن السلطة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2001، ظلت تساير التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في إسقاط حركة طالبان، وهي التي كانت تصفها بأمنها القومي، إلى أن وصلت السكين إلى الحلق الباكستاني بفتح الهند (عدوتها التقليدية) قنصلية هندية في جلال آباد، وهو ما شكل باعتقادي نقطة تحول كان لها ما بعدها في الموقف الباكستاني تجاه تعاونه وتنسيقه مع الأمريكي.
إذ رأت باكستان يومها أن وجود القنصلية غير مبرر مع انعدام وجود أي جالية هندية في المدينة، ومن ثَمّ فمن الطبيعي أن تكون القنصلية وكرَ تجسس ومركزاً عملياتياً متقدماً للقوات الهندية للعبث في الأمن الباكستاني، لا سيما وأن الأذرع الهندية موجودة على الضفة الأخرى من الحدود، ممثلةً بأحزاب يسارية قومية أقرب إلى الهند، ومليشيات انفصالية بلوشية تحظى بعلاقات معها.
والأمر نفسه ينطبق اليوم على حلب، إذ إن إيران ليست بحاجة لقنصلية من حيث الخدمات القنصلية، نظراً لغياب أي جالية إيرانية فيها، باستثناء
مليشيات طائفية عابرة للحدود ليست بحاجة لجوازات وتأشيرات سفر! مما يعني أن هذه القنصلية ستكون لها خدمات أمنية وعسكرية لتحريك أيادٍ داخل الحدود التركية، من خلال حزب العمال الكردستاني الذي يحظى بقيادات طائفية موالية لإيران أكثر مما هي موالية لشعاراتها وقاعدتها الاجتماعية.
لم تتردد باكستان في الوقوف بصمت وبهدوء ولكن بثبات ورسوخ ضد المخطط الجديد التي رأت فيها حصاراً لها، فزادت من جرعة الدعم لحركة طالبان الأفغانية وبدأت بالإفراج عن قياداتها، مع السماح لمقاتليها وقادتها بالدخول إلى الأراضي الباكستانية، والتحرك منها إلى داخل الأراضي الأفغانية، وهو الأمر الذي رأينا نتيجته بعد سنوات في انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، مما يستتبع انسحاب كل من تلطى بها يوم دخل، وعلى رأسها الهند.
القنصلية الإيرانية في حلب رسالة مكتملة الأركان لتركيا بعد أن نجحت طهران في إبعاد تركيا عن ثلاثة أرباع الأراضي السورية، ودفعت بفائض كبير من اللاجئين والنازحين إلى أراضيها لتنشغل بهم تركيا خدماتياً وأمنياً. فقد تحولت المهمة الإيرانية اليوم لنقل المعركة بأشكال مختلفة إلى داخل تركيا لابتزازها في سوريا وربما خارج سوريا. قد يرى البعض مثل هذا التحليل بعيداً عن الواقع، ولكن جردة حسابات الممارسة الإيرانية البعيدة والقريبة تؤكد أن طهران التي نقلت المعركة اليمنية إلى داخل السعودية، لن تتردد في نقلها عبر أدواتها إلى داخل تركيا.