صورة لثلاثة قردة، معلّقة على حائط الاستقبال، حرصت مصلحة السجون الصهيونية على تعليقها في كل سجن، لم تغب هذه الصورة عن بال كل أسير فلسطيني، خاصة أسرى عِقديّ الستينيات والسبعينيات.
ثلاثة قرود تجلس إلى جانب
بعضها البعض، أحدها يضع يديه على عينية تعبيراً عن عدم المشاهدة، والثاني على
أذنية كناية عن الطرش، والثالث على فمه تعبيراً عن البكم. ولم تحمل هذه الصورة إلا
معنىً واحداً، أرادت إدارة السجون إيصاله لكل أسير، بأن يعيش فترة حكمه على قاعدة
لا أرى لا أسمع لا أتكلم.
من واقع حالة الحرمان والعزلة، التي اتبعتها مصلحة السجون أواخر الستينيات وبداية السبعينيات والرامية لحصر الأسير في دائرة مفرغة، أبعد نقطة فيها مطالبته بسيجارة بعد يوم عمل شاق؛ قرر الأسرى التمرد على واقعهم والثأر لكرامتهم التي كاد الجنود أن يذيبوها في المكان، وعبر سياسة التطويع التي تقود الأسير للتأقلم مع المحيط، رفض الأسرى الاستسلام لظروف السجن وسياسة السجان، وبدأت حالة من الوعي الوطني تسود السجون، تدفعهم نحو إثبات الوجود والتواصل مع الخارج لفضح ممارسات السجان بحقهم، وهكذا بدؤوا بتشكيل الأسس الأولى للتواصل، أو كما أسماها بعض المُحرَّرِين من سجون الاحتلال وعدد قليل من الباحثين الإعلاميين بهذا الشأن "صحافة تحت القيد".
هكذا بدؤوا تشكيل الأسس الأولى للتواصل، أو كما أسماها بعض المُحرَّرِين من سجون الاحتلال وعدد قليل من الباحثين الإعلاميين بهذا الشأن "صحافة تحت القيد"
مرّت حركة الصحافة الاعتقالية بمراحل
عديدة، كل مرحلة كانت رهناً للظروف الاعتقالية التي سادت السجون، وقد وصف بعض
الباحثين الإعلاميين هذه الصحافة بأنها لم تأتِ نتاج التحايل على الزمن الثقيل في
السجون، وإنما كانت رسالة سياسية وتعبوية وفكرية وتربوية وتنظيميّة وثورية.
فقد شكلت
صحيفة "الأنباء" التي أصدرها الكيان الصهيوني باللغة العربية عام 1968، ووجهها
للجمهور العربي بهدف تغيير قناعاته، إحدى مصادر المعلومات المفروضة على الأسرى
داخل السجون، حيث كانت تدخل لهم حتى أواخر السبعينيات، إلى جانب إذاعة صوت
إسرائيل بالعربية، وتعاملوا معهما بحذر شديد وانتقاء للمادة الإعلامية المراد
تعميم ترجمتها على باقي الأسرى، ما دفعهم لاحقا للتفكير بضرورة تأسيس إعلام
مُقاوِم للتوجه الإعلامي الصهيوني.
أما الأخبار المرئية والمسموعة فكان المتحكم الوحيد بها هو إدارة السجن، عبر إذاعة عامة تصل لمسامع الأسرى إما من خلال مكبّر صوت عام يوضع في ساحة النزهة أو يوزع على زنازين الأسرى، ويتم بث نشرة أخبار واحدة فترة الظهيرة بالعربية والعبرية ووصلة لأغاني أم كلثوم في الفترة المسائية، الأمر الذي دفع الأسرى للتفكير بتهريب أجهزة "الترانززستور" القديمة بطرقهم الخاصة.
وفي الوقت الذي كانت مصلحة السجون تحرم فيه الأسرى من أدوات الكتابة، لجأ الأسرى إلى التواصل الشفوي ولغة الإشارة فيما بينهم،
ليعبروا عن الأفكار أو ليوصلوا الأخبار داخليا وخارجيا. وبعد تهريب أول قلم
حبر جاف، إذ كانت مصلحة السجون تعطي الأسرى قلما واحدا ليكتبوا رسائلهم الأسبوعية
على أوراق منظمة الصليب الأحمر؛ صار القلم لاحقا وسيلة تواصل فيما بينهم عبر
الكلمة المكتوبة، وكانت الكبسولة وسيلة التواصل الأكثر رواجا وأمنا، تصنع من ورق
الزبدة، وتهرب بعد بلعها من قبل أحد الأسرى الذين ينتقلون من سجن إلى آخر، ثم
تستخرج بعد تنظيفها من البراز، وكانت تحمل معلومات سرية بين السجون أو ترسل
للخارج عبر زيارات الأهالي لقيادة التنظيم.
صار القلم لاحقا وسيلة تواصل فيما بينهم عبر الكلمة المكتوبة، وكانت الكبسولة وسيلة التواصل الأكثر رواجا وأمنا، تصنع من ورق الزبدة، وتهرب بعد بلعها من قبل أحد الأسرى
وفي منتصف السبعينيات، أصدرت مجموعة التيار
الوطني الديمقراطي في سجن عسقلان صحيفة "الحرية" وكانت تُصنع إما من كيس الورق ذي اللون البني
الفاتح الذي كان يوضع بداخله علب السجائر ويلقى في القمامة بعد توزيع السجائر على
الأسرى، أومن ورق اللبن الكبير غير القابل للتمزق، وأخذت شكل الجريدة الورقية وتم تقسيمها إلى
أعمدة خصصت أغلبها في الشأن السياسي لأنها جاءت مواكبة لفترة عصيبة شهدت فيها الحركة الأسيرة حالة من
الفوضى والخلافات الداخلية.
وفي أواخر السبعينيات حملت المجلات أسماء التنظيمات الفلسطينية في الخارج، واحتوت على مواد تروّج لفكر التنظيم وآيديولوجيته، وخُصِّص لهذه المجلة لجنة تحت مسمّى "اللجنة الثقافية"، كانت تشرف على البرامج وتصوغ الخطة الثقافية للتنظيم ، انبثقت عنها لجنة خاصة تشرف على مجلة التنظيم توازي هيئة التحرير حاليا.
وبعد
تهريب أول راديو "الترانزيستور" خلال إضراب سجن نفحة عام 1980، استطاع الأسرى من
خلاله الاستماع إلى إذاعة "صوت الثورة"، التي أسهمت برفع مستوى الكتابة الصحفية
عند الأسرى، حيث كان يتم تدوين البرامج والأخبار ونشرها على باقي الأسرى مما عزز
موهبة التحليل السياسي لديهم.
بقي الوضع السري للصحافة الاعتقالية يُمارَس في
الخفاء عن أعين السجان حتى عام 1984، عندما حقق الأسرى عبر الإضرابات المفتوحة عن
الطعام، مطلب شراء الراديو والتلفاز من
مخصصاتهم المالية، الأمر الذي حوّل الأسير من متلق خارج السجون إلى مراسل صحفي،
وقد شكّلت زيارة الأهل وزيارة المحامين مصدراً مهماً للمعلومة، استغلّها الأسرى في
إعداد تقاريرهم الداخلية.
ومع أوائل التسعينيات ولغاية اليوم، نشطت حركة تهريب الهواتف النقالة للسجون لتشكل
مرحلة جديدة من التواصل مع الخارج، انعكست على الأنشطة الإعلامية داخل السجون
وخارجها، بشكل طوّر في مضمونها وشكلها، وقللت بشكل أو بآخر من رقابة حارس البوابة
الداخلي عليها.
كما وساهم اعتقال عدد من الصحفيين في السجون الصهيونية ما بعد عام ألفين، في عقد دورات صحفيّة أكسبت الأسرى خبرة جديدة في الكتابة الصحفيّة من جهة، وطوّرت في الشكل الصحفي الذي وثّقه الأسرى الصحفيون بعد تحررهم مما رأته عينهم المجردة عن قرب وبصورة أدق مما كانت عليه.
تحديات
كثيرة واجهت تاريخ الصحافة الاعتقالية كي تولد من رحم القهر والحرمان، لتقول
للسجان الصهيوني إن الشمس لا يمكن أن يغطيها الغربال.