ساهم الأسير المحرر المرحوم محمود بكر حجازي بتأسيس أول طرق وسائل الاتصال داخل السجون الصهيونية، اذ إنه يُعتبر الأسير الأول من أسرى الثورة الفلسطينية عام 1965، وكاد أن يُعدم لولا حدوث جدل بين الأحزاب الصهيونية، أَلغى هذا الإعدام في اللحظة الأخيرة.
إحتوت الزنزانة 139 في سجن الرملة المركزي، الأسير حجازي، وبقي وحده معزولاً عن المجتمع الإنساني خلال أول سنتين من أسره، وخُصص لحراسته سجّان يتم تبديله كل ثماني ساعات، فكان من الصعب عليه التواصل مع الآخرين، ناهيك أن أسرى الثورة الفلسطينية، وقد كان يطلق عليهم "الرعيل الأول"، اتصفوا بسريتهم وصعوبة تعاطيهم مع الآخرين، لأنّ أغلبهم استمر بممارسة دوره النضالي من داخل السجون، ولم يعدم وسيلة الاتصال رغم عدميتها.
قلم مكسور كان قد وجده حجازي في باحة السجن، وهرّبه لزنزانته، كان كفيلاً بخط أولى الرسائل الاتصالية، والتي كانت عبارة عن شعارات وطنية تركها على حائط زنزانتة اختارها بقصد لمن يأتي بعده، بهدف توصيل رسالة مضمونها الحث على الصمود والثبات وليُعلم الآخرين أنه مرَّ من هنا.
عام 1967، ارتفعت قليلاً نسبة اعتقال رجال الثورة الفلسطينية من الفدائيين، لا سيّما من القدس، أمثال فيصل الحسيني وغازي الحسيني، ولكن حجازي كان يواجه صعوبة بالتواصل معهم بسبب بعد المسافة ولم يملك سوى الصراخ بهدف رفع معنوياتهم ، في وقت كان الخوف وعدم الشعور بالأمان يسيطران على الحالة لعدم ثقته بالآخرين من جهة، ويقظة السجان وانعدام وسائل التواصل من جهة أخرى.
شكلت وسيلة الصراخ بين زنزانة 139، وباقي الزنازين الأخرى، الوسيلة الوحيدة للتواصل فيما بينهم، بينما شكلّ التكبير في زنازين التحقيق والنطق بالشهادتين، والدق على جدران زنازين التحقيق، وسائل تواصل معتمدة لدى الأسير المحرر سلمان جاد الله، الذي اعتقل أواخر عام 1984، أي قبل اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987، وقد روى لي قائلاً : " كان الصراخ والنطق بالشهادتين والتكبير وسيلة تواصلنا، تبعث الطمأنينة في النفس، وتبلغنا أنّ هناك من يشاركنا أقبية التحقيق، وعبرها كنّا نقوّي بعضنا البعض ونشد الأزر بهدف الصمود، وعدم الرضوخ لمكر المحقق االصهيوني".
وخلال تواجد الأسير المحرر جاد الله، في سجن غزة، والذي كان مقاماً على أرض غزة حينها، وخُصص للأسرى الموقوفين لغاية نقلهم للسجون المركزية الأخرى بعد صدور الحكم بحقهم، كان الحديث عبر الصراخ هو وسيلة التواصل الوحيدة مع أهالي غزة، الذين كانوا يمرون بالقرب من السجن ويطلقون زوامير السيارات، بهدف لفت أسماع الأسرى، والخروج عبر النوافذ للحديث معهم، واعتبرت الأخبار الاجتماعية هي الأخبار المتبادلة فيما بينهم.
اعتبرت قصة الأغنية الفلكلورية بعنوان "يا طالعين الجبل"، والتي حملت رسائل تشفيرية، وحملت أسلوب "المولالاة" في الغناء، تأريخاً لوسلائل التواصل بين الأسرى الفلسطينيين وعوائلهم وقت الانتداب البريطاني، لتبشر المعتقلين في سجونها، بقرب حصول عمل فدائي لتحريرهم، وكانت السنوة الفلسطينيات يغنينها بإضافة كلمة "اللا" بعد عدد من حروف الأغنية، بهدف التمويه حتى لا يفهمها جنود الاحتلال، وقد أبلغت النسوة عبرها بأن رؤية الأسرى لاشتعال النار هو علامة من الفدائيين بقرب تحريرهم، وكانت كلماتها تقول "يا طالعين عين للل الجبل يا موللل الموقدين النار، بين اللل يامان يامان عين الهنا يا روح، ما بدّي منكيللكم خلعة ولا بدّي ملبوس، بين اللل يامان يامان، عين الهنا يا روح، ما بدّي منكيللكم خلعة ولا بدّي زنار، بين اللل يامان يامان، عين الهنا يا روح، إلا غزال لللذي جوّين اللليكم محبوس، بين اللل يامان يامان، عين اللل هنا يا روح، إلا غزال لللذي جوّين اللليكم ما يدوم، بين اللل يامان يامان، عين اللل هنا يا روح".
رغم كلّ محاولات الاحتلال الاستفراد بالأسرى، وعزلهم عن المجتمع الإنساني، لم يعدم الأسرى وعوائلهم، أساليب التواصل، وابتكروا من رحم المعاناة طرقاً للتواصل، تطورت عبر الزمن، سيكون لنا وقفات أخرى عبر مقالات قادمة حولها.