جاسم سلطان أول النماذج التي حاولت أن تضع النموذج الفكري الجريء في دائرة المساءلة النقدية، فالرجل كان يعتبر من أهم قيادات التنظيم الإخواني في قطر، وهو على وعي مفصل بالأطروحة الحركية في أبعادها الفكرية والتنظيمية والسياسية، بل إنه يتمثل بشكل دقيق مقولاتها، ويعرف مراميها وخلفياتها.
فمع جاسم سلطان، لم تَعُدْ حركة النقد الذاتي، تمس بعض عناصر البناء الفكري والتنظيمي الحركي، ولم تَنْدَرِجْ ضمن المراجعات، التي تحاول إعادة ترميم البناء وتعديل البراديغم الحركي نفسه، بإدخال مقولات، أو تغيير تفسيرات، أو التدقيق في مفردات ومناهج تغييرية، وإنما وصل النقد مع "الحالة القطرية"، إلى أعلى سقوفه، أي، إلى درجة تجاوز البراديغم الحركي برمته، من خلال طرح فكرة جدوى التنظيم في واقع كواقع قطر، والمصالح التي يمكن أن يحققها وجود هذا التنظيم بارتباطاته العالمية، والمفاسد التي يمكن أن تلحق الدعوة ورجالاتها، من وراء وجود هذا التنظيم بأطره الحزبية ورهاناته السياسية .
تعني عملية النقد التي باشرها جاسم سلطان إنهاء تنظيم الإخوان في قطر، بتسويغ فكري ومقاصدي، يحاجج بذات المسلمات التي انطلق منها البراديغم الحركي، وبنفس الأهداف والغايات، التي رسم الطريق للوصول إليها.
دواعي تأخر المشروع النقدي عند الدكتور جاسم سلطان
في البدء، لم يكن متاحا بالنسبة إلى الدكتور جاسم سلطان، أن يطرح مسوغات فكرته بشكل تفصيلي، لاعتبارات خاصة، تراعي ظروف التنظيم العالمي. فاكتفى بالحديث عن بعض الشذرات الفكرية، التي تركز على أهم مسلمة من مسلمات البراديغم الحركي، وهي نشدان الحركة الإسلامية للخلافة الإسلامية، بإقامة الدولة الإسلامية، ذلك أن سقوط الخلافة الإسلامية، وعدم وجود الدولة الإسلامية، دفع الحركة الإسلامية، أن تفكر في إعادة إنشاء البناء المصغر للخلافة، ولأن الإسلام نظام شامل، فإنها بدأت تنشئ المنظمات الشاملة، التي ستقوم بهذا الدور، بناء على مسلمة ثانية، تفترض أن هناك فراغاً، يمكن أن يحتله المشروع الإسلامي، ويبسط أجنحته على الحياة، فتعود الدولة الإسلامية ابتداءً، ثم تعود الخلافة الإسلامية.
لم يكن متاحا بالاعتبار الأخلاقي والرمزي للدكتور جاسم سلطان، أن يمس نقده كل مسلمات البراديغم الحركي، وإنما وجهه لهذه المسلمة الأساسية، التي اعتبرها سببا في عدد من الأخطاء، التي اقترفتها التجربة الحركية، ذلك أنها كانت تتوهم أن الواقع هو عبارة عن فراغ، لا على المستوى المحلي، ولا على المستوى الإقليمي، ولا حتى على المستوى العالمي، فتغافلت أن ثمة دولة مركزية، لها أجهزتها القوية، وأن الحركة الإسلامية، حينما أنشأت بناها التنظيمية، التي راهنت عليها لتحقيق أهدافها وتطلعاتها، اصطدمت بالواقع الحقيقي، الذي لم تتوقعه، فدفعت ثمنا باهضا، كان من نتائجه، استنزافها في الصراع مع الحكم، وتبديد طاقتها في مساحات شاسعة، وكان أن دُفِعَتْ لمربع العنف لاستهلاك بقية طاقتها، فحُكِمَ عليها في نهاية المطاف بالحصار من كل جانب .
أزمة التنظيمات الإسلامية
يروي الدكتور جاسم سلطان في "أزمة التنظيمات الإسلامية"، الذي يجسد بمفاهيمه ومقولاته نموذجه الفكري النقدي، قصة هذا الكتاب، ويفصح فيه عما لم يكن متاحا في زمن بعيد أن يبوح به للحساسية الشديدة، الذي كان سيثيرها نشر وقتها، وأيضا في مواضيعه، وأنه قرر أن ينشره، مخافة أن يمضي به العمر، دون أن يتيسر له بث هذه الأفكار النقدية، وأن موضوعه، هو جماعة الإخوان المسلمين، وأن قصده، هو مراجعة منظومة الأفكار (نظام الأفكار)، الذي يؤطر العقل الحركي الإخواني.
الكتاب في الأصل، حسب بوح جاسم سلطان، انطلق من فكرة المراجعة لديه لفكر الحركة الإسلامية سنة 1973، لينطلق سؤال مركزي، عن نظرية العمل، والبنية التصورية للحركة الإسلامية، وذلك سنة 1984، ليختمر هذا السؤال مدة عشرين سنة، ويولد معه مراجعات، تضمنها كتاب يعبر عن وجهة نظر الكاتب الشخصية لم ينشر، لتمتد المراجعات، وتنتهي إلى إنهاء التنظيم في قطر، ثم يخرج الكتاب بعدها، ليبوح بالنقد، الذي كان يختمر في ذهن جاسم سلطان عن أعطاب البراديغم الحركي .
ينطلق جاسم سلطان من سؤال محدد، يسوغ فعل المراجعة، التي أقدم عليها، وهو دواعي وصول جماعة الإخوان في كل مرة إلى الباب المسدود، ودخولها دائرة المواجهة مع السلطة، وأنه لا ينخرط في فعل التقييم والمراجعة من خارج التجربة الحركية، كما يفعل مراقبو الظاهرة، ولكنه يباشر عملية النقد من موقع المعايش للتجربة، الذي قضى رحلة عمر داخل تنظيم الإخوان، ويحدد في مقدمة كتابه منهجه في التعاطي، ذلك أنه حاول أن يبحث عن المشكلة داخل منظومة الأفكار، التي تؤطر العقل الحركي الإخواني، لا من خلال سلوكهم السياسي، ولا باعتبار السياق الدولي أو الإقليمي، أو التفسيرات التآمرية، التي تحاول أن تغطي على أخطائهم .
يفسر جاسم سلطان سبب اهتمامه بدراسة ونقد نظام الأفكار، وأنه يقصد بذلك تحرير الأجيال القادمة من أسر الأفكار، التي أفقدت الإنسان المسلم، القدرة على رؤية العصر، ومعرفة شروط إنجاز المشاريع الوطنية، وشروط الاستقرار، وجعلته يدور حول نفسه، في تجارب عقيمة، لا يكاد يخرج من أزمة، حتى يدخل في أخرى أكبر منها.
في نقد فكر الهيمنة
يلخص جاسم سلطان الأزمة التي تعاني منها حركة الإخوان في ثلاث تمظهرات أساسية:
ـ أولها، سيطرة الفكر الشمولي
ـ وثانيها، هيمنة فكر الاستحواذ والسيطرة.
ـ وثالثها، قصور المعرفة بالواقع السياسي والاقتصادي والإقليمي والدولي .
يحاول جاسم سلطان أن يتجاوز نظرية تعليق الشماعة على الغير، وتفسير الفشل بنظرية المؤامرة ووجود مخططات تحوكها القوى الخارجية، مركزا على أثر منظومة الأفكار، في صناعة فشل الإسلاميين ودخولهم النفق المنسد، ومحاولا في الوقت ذاته، بيان المسلكيات الالتفافية، التي يبرر بها التنظيم تهربه من النقد الذاتي، وكيف يتم حرف الأسئلة المركزية، التي تمس بنية الأفكار، إلى مجرد أسئلة فرعية، يقصد منها، تضخيم إكراهات الواقع، لإعفاء التنظيم من المسؤولية الذاتية في الفشل.
يعيد جاسم سلطان قراءة تاريخ الحركة الإصلاحية، ويمايز بين جهود دعاتها، ويعتبر أن سقف اهتمامها كان صاعدا مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، حيث كان الحلم الإسلامي عند الأول واعدا بحكم تكريس جهوده لحرب الاستعمار والاستبداد، والدعوة إلى الوحدة الإسلامية، وكان الثاني مهموما بفكرة التجديد، وتحديث التعليم، مع اشتراكهما معا، في جعلهما للإسلام بوصلتهما المحركة، لينخفض السقف قليلا، مع محمد رشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب، إذ انشد الأول (محمد رشيد رضا) للماضي، واهتم الثاني (البنا) في تشخيصه، بضرورة توفير التنظيم الحديدي، وفكرة الاثني عشر ألفا الذين لن يهزموا، في حين ركز سيد قطب على البداية من الصفر، والارتكاز على الطليعة الجديدة، التي ستتربى على نهج الصحابة، وتضطلع بمهمتها في إعادة الإسلام إلى مواقعه، وهزم الجاهلية .
يلخص جاسم سلطان عطب الحركة الإسلامية في تبنيها لإيديولوجية تُضَخِّمُ من فكرة الدولة، وتعتبرها الوسيلة الوحيدة، لعودة الإسلام، إذ تحولت الإمامة، مع الإمام حسن البنا، من القضايا الفرعية، كما قرر ذلك العلماء، إلى الأصول المحكمات، كما صارت مع المودودي وسيد قطب من قضايا العقيدة بسبب التباسها، بمفهوم الحاكمية، والحكم بما أنزل الله.
1 ـ هيمنة الفكر الشمولي:
وهل الإسلام نظام شامل أم منظور شامل: حاول جاسم سلطان أن يوضح الطريقة التي تتأسس بها مقولة "الإسلام نظام شامل" داخل الأوساط الحركية، وكيف تتم التنشئة عليها، وكيف تقدم كمفهوم بديهي، يكتسب إغراءه، فيدخل المتعاطف للأجواء الحركية، وتقدم له فكرة شمولية نظم الإسلام، للعقائد والعبادات والسلوك والسياسة والاقتصاد والاجتماع والجيش والدفاع، وأن تخلف الأمة، سببه تغييب هذه النظم عن الحياة، وأن مهمة الحركة هو استعادة هذه النظم، وإحلالها محل النظم الوافدة، وكيف تساق إشراقات من التاريخ الإسلامي، للتدليل على نجاح الأجيال السابقة، وتقدمها بسبب تطبيقها لهذه النظم، فيتم الإقناع بأن استعادة هذه النظم، هو أمر واجب، وأن ذلك لا يمكن أن يتم، إلا بعمل منظم لإقامة الدولة، التي تضمن تطبيق هذه النظم .
ينتقد جاسم سلطان هذه المقولة، ويعتبرها مقولة عائمة، وأنها تعني أشياء متعددة، وينتقد المنطق الذي تُعْرَضُ به هذه المسلمة، ويأخذ مثال المجال السياسي، لاختبار قوة وسلامة هذه المقولة، وقوة المنطق الذي يستند إليه، لإقامة الدولة الإسلامية، ويتساءل عن المقصود بهذه الشمولية، وهل تتعلق بوجود مبادئ وقيم عامة، في الإسلام تخص المجالات المذكورة، أم بوجود نظم محددة المعالم بالمعنى الحديث للنظم. ويسوق على ذلك مثال الشورى، الذي يتم الاستناد إليه لتبرير وجود نظام إسلامي يؤطر عالم السياسة، ويرى أن الشورى لا تتجاوز المبدأ والقيمة، وأن هناك فرقا بين وجود الشورى، كقيمة ومبدأ عام، وبين الشورى باعتبارها تجسيدا لنظام سياسي محدد المعالم، فالشورى باعتبارها حاجة فطرية غير مقننة شيء، وتحولها إلى نظام مقنن شيء آخر، وأن ثمة مسافة طويلة بين الفكرة المجردة، والفكرة المفعلة، وأنه لكي يتحول نظام الشورى السياسي إلى نظام، لا بد أن ينتقل من مستوى الفكرة المجرة، للبحث الفلسفي العميق، ثم يتحول بعدها إلى مبدأ حياة، ثم ينتقل إلى آليات وإجراءات، ثم يتطلب بعدها آلية حماية وتحصين، وتتطور التجربة، وهو ما لم تعرفه تجربة الشورى في التاريخ الإسلامي .
ويرى جاسم سلطان أن حمل مثل هذه التصورات الحالمة من لدن الحركات الإسلامية يجعلها خالية اليدين، من أي نظام، حين تصل إلى مربع الحكم، بل لم تهيئ حتى الاستعداد المجتمعي لتطبيق القليل من النظم، إذ لم تُنجز أي حفر فلسفي معرفي بهذا الشأن، ولم تُحقق أي انتشار ثقافي يهيئ النضال من أجل قيمها، ولا هي اجتهدت في بناء هذه النظم، وجهزت مؤسساتها وآلياتها. ويرجع جاسم سلطان السبب في ذلك، في كون الحركات الإسلامية، لم تَعِ أن الأمر لا يتعلق بنظم، بقدر ما يتعلق بمنظومة قيم، ونصوص توجيهية كبرى في مواجهة الواقع العملي، وأن الأمر يتعلق بمنظور شامل، لا بنظام شامل، يغطي كل المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها .
2 ـ الاستحواذ:
التمكن من المجتمع أم تمكينه: ويترتب عن مقولة الإسلام نظام شامل، مقولة أخرى هي شمولية التنظيم، فما دام الإسلام نظاما شاملا يسع كل المجالات، وما دام التخلف سببه غياب هذه النظم، ومادامت نهضة الأمة وتقدمها، منوطا باستعادة هذه النظم، وأن ذلك لا يتم إلا بالعمل على قيام الدولة الإسلامي،ة الكفيلة بتطبيق هذه النظم، فإن هذه المهمة، تتطلب شمولية التنظيم. وتفسير ذلك، أن التنظيم الحركي بدل أن يُحَمِّلَ المجتمع مسؤولية القيام بهذه المهمة، تَحَمَّلَهَا هو بنفسه، فاقتضى ذلك منه أن يَتَبَلْوَرَ كتنظيم شامل ليملأ فراغ الدولة، بحيث إذا جاءت فرصة الحسم، فالتنظيم الشامل في هذه الحركات، يمثل الحل، بحيث يقوم بتسخير المجتمع لتحقيق فكرته .
ينتقد جاسم سلطان هذا التصور الطوباوي، ويرى أنه لا يمكن لأي تنظيم ـ مهما عظم شأنه ـ أن يغطي احتياجات الدولة، بل لا يستطيع أن يلبي بأطره، احتياجات قطاعات منها، وأن ما يُخْفِي هذه الحقيقة هي الإيديولوجية، التي تقوم على فكرة التسليم، ولا تترك مجالا للتفكير، وتضطلع بوظيفة الإقناع بفكرة التنظيم الشامل وبجدواها، حتى تصير فكرة راسخة لدى أوساط عريضة من الشباب، ولا يتسرب الشك إليها ولا ينطلق السؤال حول جدواها.
ينتقد جاسم سلطان هذا التصور بشدة، ويرى أنه من الممكن تصور قيام التنظيم بتربية المجتمع وتأطيره، والمساهمة في تطويره وبنائه، لكن ليس من الممكن أن يأخذ على عاتقه، أن يقوم بالمهمة كلها نيابة عن المجتمع، ويخطط عنه، ويفرض عليه رؤيته، ويبني تنظيما بديلا عنه .
يقدم جاسم سلطان الفكرة المقابلة للتنظيم الشامل، وهي التنظيم الوظيفي أو التنظيم الخادم، الذي لا يقوم على فكرة السيطرة على المجتمع ولا امتلاكه، وإنما يقدم نفسه باعتباره خادما للمجتمع، يسد ثغرة من ثغراته، أو يعالج قصورا يعانيه، ويدعو غيره إلى سد بقية الثغرات .
ويعزو سبب حمل هذا التصور من قبل الحركة الإسلامية إلى عدم معرفتها بالمجتمعات، وعدم فهمها لها، وإلى الجهل بحقيقة الدين ودوره، وأنه جاء بالبلاغ المبين، ولم يأت للسيطرة على المجتمع .
ويتابع جاسم سلطان نقده، فيرى أن فكرة السيطرة على المجتمع والتمكن منه، كان لها تداعيات خطيرة، وهي التي سمحت باستعادة التقسيم الفقهي التراثي للعالم إلى "دار دعوة" و"دار حرب" وعلى تخوم هذه المسلمة الحركية، نشأت أيضا فكرة هلاك العالم، بدل هداية العالم. كما ترسخ لدى شرائح عريضة من الشباب، الذي يُؤَطَّرُ داخل الأوساط الإسلامية، حلم إقامة الدولة الإسلامية، وأنها الفضاء الذي سيطبق فيه كل شيء من نظم الإسلام، ويستعيد فيه المسلمون كرامتهم ومجدهم، وستتحقق فيه أستاذية المسلمين للعالم، بل سيتحقق فتح العالم وإخضاع المسلمين له .
3 ـ مقولة إقامة الدولة الإسلامية:
ويدخل جاسم سلطان في مناقشة ومحاججة لمقولة "إقامة الدولة الإسلامية". فمع إقراره بأن الدولة ضرورة وحاجة بشرية لتنظيم شؤون الناس، إلا أنه يؤكد عدم وجود أي نص في القرآن يأمر بإقامتها، وأن قصارى ما تضمنه القرآن في هذا الشأن هو الأمر بالقضاء بين المتخاصمين والأمر بالشورى والتشاور ، وأن تجربة الخلافة الراشدة في الحكم، لم تورث شكلا للدولة، ولم توجد تفصيلا لها، إذ لم يتم الاتفاق على آلية لنقل السلطة توفر الاستقرار، ولم يتم الاتفاق على آلية مستقرة لحل إشكالية الخلاف حول سياسات الحاكم، أو لمواجهة النزاع المسلح الداخلي، ولم يتم الإجابة عن تحدي الاستبداد، بطريقة تكفل عدم حدوثه، ولم يتم الاتفاق على آلية لتدبير الخلاف الاجتماعي.
ويرى جاسم سلطان أن الدولة، وإن كانت حسب ما يقرره الفقهاء شرطا ضروريا في إقامة الأحكام، إلا أنها من مسائل الفروع لا الأصول، هدفها تحصيل مصالح عموم الأمة ورعايتها. ويخلص من ذلك إلى أن السلطة في الإسلام، ليست واجبة لذاتها، بل واجبة لغيرها، وذلك بسبب وجود أحكام شرعية، تحتاج إلى تنفيذ عبر السلطة السياسية، أو أي شكل من أشكال السلطة التنفيذية. ومعنى ذلك عند جاسم سلطان، أن وجود السلطة، لا يهم المستوى الفردي من التدين، ولكنه يهم البناء الاجتماعي، الذي يشترط وجود سلطة، تسمح بتنفيذ ما يعتقد المسلم أنه واجب ديني. ويرى أن الدولة المعاصرة، باعتبارها تعاقدا مع مكونات الأمة، توفر الوظيفة التي تضطلع بها السلطة السياسية، وترعى مخاوف وحقوق كل المكونات، وتحقق مبادئ إنسانية عظمى، وفي مقدمتها مبدأ العدل .
ويستعيد جاسم سلطان النقاش السابق الذي طرحه بخصوص مقولة "الإسلام نظام شامل" عند تمثيله بقضية الشورى، مستعرضا سياقات ومخاضات تشكل الدولة الحديثة، والانتقال الذي حدث من الفكرة المجردة إلى النقاش الفلسفي العميق، ليتحول الأمر إلى دولة بآلياتها ومؤسساتها، ثم تتجسد في شكل تجارب على الأرض، وتتطور فكرة الدولة الحديثة، وتنتقل من فكرة دولة المساكنة إلى دولة المواطنة.
وعلى الطريقة نفسها التي انتقد فيها تصور الإسلاميين لهدف إقامة الدولة، تعرض أيضا لتصورهم لمفهوم الخلافة، فيبسط ما يتبادر للذهن من هذا المفهوم، من أنه "إنشاء نظام سياسي موحد للمسلمين، بحيث يكون رأس للسلطة تتبعه ديار الإسلام"، فيستعرض الأشكال التي يتمثل بها الإسلاميون، بمختلف أطيافهم، قضية المطالبة بإقامة الخلافة الإسلامية، وأن بعضهم من يتمثل مفهوم الخلافة الراشدة، بصورتها المعيارية التاريخية. وبعضهم أعد دستورا لها كحزب التحرير، ومنهم من يمثل لها بالوحدة الأوربية. ويستعرض تاريخ الخلافة الإسلامية، والحركات الثورية، التي قامت على الدولة الإسلامية، ويسجل أن العصر الأموي بكثرة فتوحاته، لم يكن مركز الدولة فيه يعرف استقرارا، رغم وحدة العرق العربي، وسيطرته على مركز السلطة، وأن الصراع لم يأت فقط من خارج العصبة القرشية، بل جاء من داخلها.
ويستمر جاسم سلطان في نقده لهذا المفهوم، ويرى أن العالم أصبح اليوم أكثر تعقيدا، وأن النجاح الممكن حدوثه، هو إقامة دولة قطرية ناجحة، تعطي نموذجا للنجاح الخلقي والقيمي والمادي، وأن يقدم هذا النموذج، الإمكانية لبناء وحدة سياسية، على أساس الاتفاق في المبادئ والقيم، بين بعض هذه الوحدات، وأن الحديث عن الخلافة، بمفهومها المعياري الشامل، كلام لا أرضية له، وهو خارج عن إطار الواقع، وأن الفصائل الإسلامية، عجزت عن تحقيق وحدة بينها في عدد من الدول، فكيف يمكن لها أن تتحدث عما هو أكبر من ذلك؟
قيادي إسلامي تونسي: عوامل ذاتية تفسر فشل الإسلاميين
قيادي إسلامي تونسي: هكذا نجح مشروع بورقيبة التحديثي
إسلامي جزائري يدعو إلى ميثاق أخلاقي يحمي الاختلاف