واهمٌ من يعتقد أن باستطاعة أي حاكم عربي أن يُرضخ شعبه أويُنَفِّذ أي جزئية صهيونية أو أن يبقى في الحكم لحظة؛ بدون استخدام
الجيش الوطني المبرمج والمسوق بلباس الوطن وشعبه..
مِن خِدع الكلام ونفاق السلوك وأدوات الاستسلام؛ القول بأن لا حل عسكرياً لهذه المشكلة أو تلك بين دولتين. والواقع هو أنه لا حل سلمياً لمشكلة بين دولتين ما دام هناك عدوان واختلال في ميزان القوة، ولا بدون استحضار أو استخدام القوة. والحلول بين الدول كلها عبر التاريخ عسكرية، أو منطوية على ميزان الضعف والقوة. فليس من عدوان إلا وقام على التفوق في القوة أو الشعور بها حتى لو كانت مستأجرة لضعيف.
وسلامة الجيوش هي العامل الحاسم في الحفاظ على الحقوق والأوطان.. وفي هذا الجانب يمكن القول إن الدولة السليمة في الجيش السليم، والجيش السليم في الشعب السليم. فإلى أي مدى جيوشنا سليمة وإلى أي مدى شعوبنا سليمة؟
أمّا عن وعي شعوبنا فلنتفق على أنها لم تكن سيدة نفسها أو أوطانها منذ قرون خلت، وأنها جُزئت مع تجزئة وطنها في كيانات وظيفية بعد سقوط الدولة العثمانية، ووضْع حكام وظيفيين على رؤوسها، وأن وعي الشعوب مسألة نسبية، وشعوبنا لا تقل علما وقيما عن شعوب الدول المتقدمة. لكن ثقافتها الاجتماعية الموروثة وقفت وما زالت عائقاً أمام تعاطيها الصحيح مع حكامها ومع مفهوم الوطن والدولة الحديثة، وبالتالي في مواجهتها لاستهداف قوى العصر من شرق وغرب، وبما عطل فاعليتها وأعماها عن مكامن الجروح، وأصبحت تعاني من حالة انعدام الوزن وتتخلى عن حقها في الدفاع عن نفسها، وتتعايش مع تصاعد مراحل المعاناة المبرمجة، بوطن مهشم ومستباح، وبعقيدة دينية تعاني وحدها من تكالب الآخرين عليها رغم خصائصها التي جعلت حتى الغزاة التاريخيين يعتنقونها، وبحكام لم يحدث التاريخ عن سابقة لطبيعة خياناتهم.
أما الجيوش العربية فكانت في صلب الاستهداف الصهيو-غربي وعماد الجروح العربية في معادلة الحكم التي رسخها المستعمر، حين برمج الكيانات القُطرية بمدخلات هي مقدمات مسمومة تؤدي الى نتائج مسمومة.
فعندما أسس المستعمر الكيانات الوظيفية استبق هذا أو زامنه بتأسيس جيوشها الخاصة بها تحت رعايته. والقُطر الذي لم يعين له قيادته السياسية أو لم يصمم عقيدة جيشه العسكرية ابتداء، قام باختراقه لاحقأ بخونة وعملاء ومأجورين من العسكر، يجندهم ويزرعهم في الجيوش ويوصلهم الى مصاف القيادات مقابل حمايتهم ودعمهم وإيصالهم للسلطة.
وما زال منا من يتساءل: كيف لثلاثة من العسكر أن يستولوا على ثورة الشعب السوداني ويكون أول قرار لهم هو التطبيع مع الاحتلال؟ وكيف للقيادة العسكرية المصرية أن ترث ثورة شعب وتتسمر أمام وأد ماء الحياة للمصريين في أول امتحان؟ وكيف لجيش بريمر في العراق أن يصطف ضد وطنه؟ وكيف لقيس تونس أن يئد ديمقراطية وليدة؟ وكيف وكيف.. إلى الرقم 21؟
فالجيوش في الحالة الطبيعية والتي حرمنا منها، هي أداة ردع لعدو خارجي. بوصلتها عقيدة سياسية وطنية أخلاقية واعية، وعقيدة قتالية باتجاه العدو الخارجي. تصنع خططا عسكرية وتُنفذ سياسات وطنية يصنعها السياسيون الممثلون الشعب.
إلا أن العدو الصهيو- أمريكي استهدف جيوشنا بتغير فلسفة وهدف وجودها واهتماماتها مكانا وزمانا، وجعل منها مؤسسات حكم فاسدة ومصنعا للحكام المبرمَجين، وأذرعاً منفذةً لمتطلبات المشروع الصهيوني وكبح حركة التحرر العربي. والصراع الوحيد لها هو على السلطة ومن يتحداها، وغاب عنها بحكم واقعها أية اعتبارات أخرى، لتصبح عبئا على الوطن والشعب، وعامل تخلف وانهزام كبير للدول العربية، وعائقا أساسيا للتحول الديمقراطي..
نعم جيوشنا من أبنائنا وإخوتنا وأبائنا، ونعم فيها من القادة العسكريين الوطنيين الأفذاذ، ولكننا نتكلم عن اختراقها من العدو بخونة وعملاء، وتَمَكُنه من إعادة هيكلتها وتحييد أفذاذها وتغيير عقيدتها، حتى باتت لا ترفع السلاح إلا بوجه الشعب.
فهناك في بلادنا اليوم توحدٌ أو تحالف بين الحكام والجيوش الممثلة بقياداتها المسلوخة عن الشعب والوطن، ولا نرى من هذا التحالف سوى ذراع لخدمة المشروع الصهيوني وتعميق التطبيع ومواجهة الشعوب وتطويعها أو إرضاخها، مما مكن الحكام من الوصول لكل مفردة مستهدفة في بلادنا. وأي خلل أو قصور في هذا التحالف يجري إصلاحه على يد العدو، وإن تعذر ذلك فيجري استبدال الشخوص بآخرين. وعند أي تطور على أهداف العدو يصار الى تطوير برمجة هذا الذراع، فسلوك هؤلاء الحكام ليس من إنتاجهم الشخصي، ونجاحهم ليس من كفاءاتهم، وصمودهم ليس من قدراتهم.. إنهم طغاة وطغيانهم مبرمج.
وبهذا، جاهل أو واهم من يعتقد أن بإمكان أو باستطاعة أمريكا أو أي حاكم عربي، عسكريا كان أو مدنيا، أن يُرضخ أو يُذل أو يقمع شعبنا أو يتجاوز إرادته، أو يُنفذ أي جزئية صهيونية، أو الوصول للحكم أو البقاء فيه لحظة واحدة بدون استخدام الجيش المبرمج والمسوق بلباس الوطن وشعبه. إنها بعرف العدو جيوش تمثل رصيدا استراتيجياً له، ولا يمكن للحال أن يستقيم إلا بجيوش وطنية سليمة من الاختراق ومن أية أجندة غير وطنية.
وبالربط بين الفقرة الأولى وما سلف، فلا بد من أن نعترف بأن الشعب العربي وأقطاره في حالة استعمار بوكالة سياسية- عسكرية محلية وطنية، مما يجعل من الشعب العربي بما فيه الفلسطيني في أزمة ذات طبيعة داخلية معقدة، بحكام وظيفيين وجيوش من دمنا ولحمنا يتولون دور المستعمر. أما فلسطين فمستعمرة إحلالية والأردن على طريقها، والمقاومة الفلسطينية تعيش أزمتين فلسطينية وعربية. وعلى أرضنا تصنع الأزمات القاتلة بأيدينا والحلول صهيونية، والسلام في حالتنا لا يكون إلا استسلاما، والاستسلام كارثي.
السؤال: كيف لشعوبنا أن تحقق الاستقلال؟ وكيف يكون التحرير بل وكيف تكون الثورة وجيوشها الوطنية ترضخ لقيادات عميلة عسكرية كانت أو مدنية؟ فإن أي نوع من المواجهة سيكون بشكل مضمون اقتتالا أهليا، وميزان القوة فيه مخسوف..
نحن بحاجة لصحوة جيوش وشعوب، فكما يضم الجيش الواحد مائة عميل وخائن أو بائع لشرفه العسكري والوطني، فإنه يضم مئات القادة الأحرار، وصمتهم مرفوض بكل المقاييس العقدية والوطنية والشعبية، ويتحملون مسؤولية.
أمّا الشعوب فهي مختطفة بالنزعة الفردية الناكرة للعمل الجماعي، وبالأبوية وصور الشيخ والبطل والمخلص. وكل هذا قادها لبيت الطاعة واستمراء العبودية، وخذلان النخب الوطنية المضحية، ورفض الخروج الجماهيري للشارع والقول للحاكم لا لنهجك ولا لسياستك ولا لفسادك. ولو لم يكن هذا هو الواقع لقلت لم يبق مع حالتنا المنطوية على صعوبة المواجهة الأهلية إلا وسيلة واحدة، هي العصيان المدني الذي يبدأ بفلسطين وينتهي بالرقم 21.