بات من المرئي أمامنا أن ما يجري في أوكرانيا
حرباً حقيقية وطويلة بين المعسكر الأطلسي مجتمعاً بقدراته الاقتصادية والعسكرية
بقيادة أمريكا من جهة، وروسيا الاتحادية وحدها من جهة أخرى، يستخدم فيها هذا
المعسكر اسم أوكرانيا ودماء أبنائها. وإن افترضنا براءة أمريكا من التمهيد لهذه
الحرب، فإنها بالتأكيد بنت على وقوع هذه الحرب أطماعا استراتيجية لها تتجاوز أوكرانيا.
تجاوبت
روسيا مع الاستفزازات بسرعة الحشد
وقرار الحرب دون قراءة كافية للمشهد أو استشراف ما قد يترتب على هذه الحرب من
احتمالات تتعلق بأهداف أمريكية، متشجعة بنجاحها السابق في القرم وببرودة ردة فعل
أمريكا على حشودها. وقامت بالحرب باسم عملية عسكرية دون منحها خصائص العملية.
وبهذه الطريقة التي موهت بها أمريكا لروسيا والعالم بأنها حرب بين دولتين فإنها قد
فرضت الطبيعة الكلاسيكية على روسيا بميزان مختل جداً.
وبناء على هذا الطرح، تكون روسيا قد بدأت الحرب بفشل وقصور
سياسي اقترن بفشل عسكري، وبدون أهداف واضحة بخطة مراحلية وبدائل جاهزة، حيث
النتائج دلّت على ذلك. أما اذا كان هدفها مقتصراً كما أعلنته على وأد مسببات خطيرة
على أمنها بعملية عسكرية، فإنها فشلت حين لم تَحسم عمليتها بثقل عسكري كمي ونوعي
في أيامها الأولى كدولة عظمى بموجب خطة تؤمن بها تغيير النظام الأكراني أو
استسلامه لعلاقة جوار أمنة ً وسلامة خروجها من الحرب في ظل احتمالات ممكنة كي لا
تطول وتجد نفسها في مستنقع أكراني استنزافي يغذيه ويديره حلف الناتو.
روسيا تواجه الآن حلف الأطلسي وحدها بحرب
كلاسيكية غير متكافئة أدت بعد مرور أكثر من عام إلى تحويلها من، عملية روسية، إلى
حرب سجالية يصر الطرفان على خوضها لأهداف لهما. حيث وصلت المسيرات الأكرانية إلى
عمق روسيا وإلى الكرملين، وأصبحنا نسمع بأن أوكرانيا تخوض حرب تحرير، مما جعل
روسيا في حرب دفاعية في بعض الأحيان، وهذا ما يُستشف مما نراه في اشتداد ضرباتها
كردة فعل حين تشتد الضربات الأكرانية. وهنا أقول، بمعزل عن العقيدة القتالية للجيش
الروسي في هذه الحرب على وجه التخصيص، فإن روسيا لا تفتقد القدرة على سحق أوكرانيا
وإفشال داعميها ومخططاتهم إن غيرت لعبتها أو انقلبت على أسباب فشلها في القرارين
السياسي والعسكري .
ألا تدرك القيادة البوتينية بأنها تخوض حربا طويلة على نسق
واحد لا يحسم حرباً تستنزفها وتضعها على منحنى متراجع ينعكس على وضعها الداخلي
وتماسكه ؟، ألا تدرك أن عدم سعي أمريكا إلى تسوية سياسية، وسعيها بدلا من ذلك
لإطالة الحرب وتعظيمها فيه إعلان صريح بأن الحرب حربها في تحالف أطلسي، وأن
الأهداف أهدافها وليست أهدافاً أكرانية، وبالتالي أن المطلوب أمريكياً هو رأس
البوتينية، أو إخضاع الإتحاد الروسي للتفكيك كما جرى في الاتحاد السوفيتي ولو
بسيناريو مختلف؟
ماذا تنتظر روسيا صاحبة ثاني أكبر جيش في
العالم وربما الأولى في قدراتها النووية الردعية ؟ وما هي فائدة هذه القدرات لها
أذا لم تُستغل بصورة من الصور في ردع عدوان أطلسي متفوق وخطير . بل وماذا لو
أقحمتها أمريكا في حرب جديدة مع دولة أخرى من دول الجوار؟ فاستمرار منحنى التراجع
العسكري الروسي سيشجع أمريكا على تعظيمه، وسيؤدي إلى مزيد من التداعيات التي تنال
من هيبة روسيا الدولية ومن صمود الجبهة الداخلية، أو إلى وصول قيادة انقلابية تخضع
لشروط أمريكية على طاولة مفاوضات.
وفي سياق متصل، فإن القيادتين السوفييتية سابقاً،
والبوتينية بعدها، تشكلان ثورة أيدولوجية على الإمبريالية الأمريكية وزعامتها
للعالم على أرضية رخوة. فمن وحي الجغرافيا والديمغرافيا والتاريخ لم يكن هناك من
فرق كبير في التطلعات الاستراتيجية والفوقية والقومية بين روسيا ودول أوروبا
وأمريكا ولا اختلاف في هوى وثقافات شعوبها. وربما أن موقف الصين الحذر من الارتقاء
بعلاقتها مع الاتحاد السوفيتي سابقاً ومع روسيا لاحقاً إلى مستوى التحالف العسكري
يُعزى إلى أنها لا تضع روسيا في قلب الصراع بين الغرب والشرق. وهنا يجدر بالقيادة
البوتينية أن تُخضع هذا لحوار داخلي، فالشعوب هي الباروميتر للواقع. وأن تتنبه
لاستغلال أمريكا لهذا الأمر. فأمريكا تنظر لروسيا وكل دول أوروبا بشرقها وغربها
بمنظور واحد مقابل للشرقي، وبمنظور الشمال مقابل الجنوب، ولا يحجمها إلا القوة
وميزان الربح والخسارة.
وفي محصلة الكلام، البوتينية الروسية اليوم في ورطة وإن لم
تخرج منها سالمة ومنتصرة فإن نتائجها ستكون وبالاً على روسيا ودول الشرق والجنوب
والعرب . لكني لا أرى الطريق مسدوداً أمامها . ومن الخيارات التي تّطرح نفسها إتنان
يدفعان أمريكا نحو طاولة المفاوضات التي تحقق فيها روسيا مطالبها المشروعة وسلامة
وضعها .فإما أن تلبس مقولة الغرب بأنها في حرب مع أوكرانيا لا مع الأطلسي وتعمل
عسكرياً وفق هذا كدولة عظمى دون قيود أو محظورات وصولاً للنظام الأكراني . وإما أن
تعلن للعالم في صيغة بيان بأنها تتعرض لعدوان في حرب كلاسيكية غير متكافئة من قبل
تحالف الأطلسي بأيد ومسمى أوكرانيين، يعرضها لخطر وجودي، وأنها ستضطر في حالة عدم
توقفه أن لا تخضع للابتزاز ولا لصمت العالم بل ستغير اللعبة وأسلحتها.
رأي اليوم