قضاء مستقلّ وفيه بعض الفساد.. هو أفضل ألف مرّة من قضاء تحت قدم السلطة التنفيذيّة وسيكون فيه مع ذلك كلّ الفساد..!!
بعد عدّة انتقادات للقضاء.. خرج رئيس الجمهوريّة قيس سعيّدة ليلة 25 تموز/ يوليو 2021 ليعلن عددا من الإجراءات الاستثنائيّة بتبرير تفعيل الفصل 80 من الدستور.. وليعلن نفسه مشرفا على النيابة العموميّة..
بعد ذلك وحين إصدار نصّ التدابير الاستثنائيّة مكتوبة بالرائد الرسمي للجمهوريّة التونسيّة.. لم يذكر الرئيس سعيّد ذلك.. بما شكّل تراجعا.. خاصّة وأنّه وجد معارضة واسعة واعتبر تدخّلا في السلطة القضائيّة.. وعبّر ممثّلو المجلس الأعلى للقضاء صراحة عن معارضتهم لذلك بمناسبة مقابلة مع الرئيس مباشرة بعد تلك التدابير.. وفي تصريحات إعلاميّة..
يوم 22 أيلول/ سبتمبر 2021 استكمل رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد إنقلابه على الدستور.. وأصدر أمره الرئاسي عدد 117 فأعلن إلغاء الدستور وتعليق البرلمان.. وقلب هرم القوانين المعتمد في كلّ الأنظمة على وجه الأرض.. فجعل أوامره الرئاسيّة فوق الدستور.. ونصّ على أنّ ما بقي من الدستور بعد إلغاء أغلب أبوابه يعدّ نافذا فقط في ما لا يتعارض مع قراراته.. عوض أن يكون الدستور فوق كلّ القوانين والقرارات والأوامر وسائر السلط..
قيس سعيّد منح بمقتضى الأمر 117 لنفسه سلطة تشريعيّة كاملة.. وأدخل كلّ المجالات في سلطته التشريعيّة المستحدثة بمقتضى المراسيم.. ومن بينها تنظيم العدالة والقضاء..
وكان واضحا من خلال ذلك نيّة الرئيس سعيّد في التدخّل في القضاء.. الذي اعتبره دستور 2014 سلطة مستقلّة قائمة الذات وخصّها بباب كامل.. كان من بين الأبواب التي ألغاها قيس سعيّد يوم 22 سبتمبر..!!
كلّ تلك المؤشّرات والإجراءات غير القانونيّة تزامنت مع حملة إعلاميّة وسياسيّة وخطابيّة منظمّة باستهداف قيس سعيّد للقضاء في كلّ مرّة وفي كلّ خطاب تقريبا..
وعادة تكرّر ذلك الأسلوب الاستهدافي الهجومي كلّما نوى قيس سعيّد ضرب مرفق أو سلطة أو مؤسّسة في الدولة..
فقد قام بتلك الحملة “الكلاميّة” التحريضيّة الشرسة ضدّ البرلمان وانتهى لحلّه عمليّا عبر قرار تجميد صوري زائف وغير دستوري..
ثمّ قام بتلك الحملة “الكلاميّة” التحريضيّة الشرسة ضدّ الدستور وانتهى لإلغاء جميع أبوابه وجعل قراراته الشخصيّة فوق الدستور وبالتالي إنهاء الدستور عمليّا..
واليوم في كلمته بمناسبة مجلس الوزراء بتاريخ الخميس 28 أكتوبر 2021.. كشّر قيس سعيّد من جديد عن نواياه السلطويّة.. وأعلن صراحة وفق البيان الرسمي لرئاسة الجمهوريّة ما يلي:
“وأذن رئيس الدولة لوزيرة العدل بإعداد مشروع يتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء”.
هكذا أصبحت الأمور واضحة..
إنّ مجرّد تفكير رئيس للجمهوريّة في إعادة تنظيم المجلس الأعلى للقضاء المشرف على سلطة القضاء.. وذلك بإرادته المنفردة خارج مناقشة وتقييم وتصويت ممثّلي الشعب الممثّلين لكامل القوى السياسيّة بالبلاد.. أي السلطة التشريعيّة ممثّلة في هذا البرلمان أو أيّ برلمان غيره مستقبلا.. هو ضرب من السيطرة الفرديّة الاحتكاريّة على القضاء..
فبعد أن عزل رئيس الجمهوريّة الحكومة ورئيسها ليلة 25 جويلية 2021.. وأعطى لنفسه بمقتضى أمره الرئاسي عدد 117 بتاريخ 22 سبتمبر السلطة التنفيذيّة المطلقة والكاملة.. وجعل الحكومة تحت إشرافه.. وأعطى لنفسه صلاحيّة تعيين رئيس وأعضاء الحكومة وتسطير سياستها والإشراف على مجلس الوزراء.. مستوليا بذلك على السلطة التنفيذيّة كاملة..
وبعد أن جمّد الرئيس سعيّد مجلس نواب الشعب ليلة 25 جويلية.. ثمّ واصل تعليق أعماله وأحال نوابه على البطالة.. وأعطى لنفسه بمقتضى أمره الرئاسي عدد 117 سلطة التشريع وسنّ القوانين عبر مراسيم رئاسيّة.. مستوليا بذلك على السلطة التشريعيّة أيضا..
الآن.. وأخيرا.. يبدو واضحا أنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد يستعدّ أيضا للانقضاض على السلطة القضائيّة ليستولي عليها بدورها.. ملحقا إيّاها بسلطاته التنفيذيّة والتشريعيّة التي استولى عليها هي أيضا خارج الدستور وخارج كلّ القوانين..
ولا شكّ أنّ مشروعه المتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء الذي أذن لوزيرة العدل بإعداده.. يجهّز لعمليّة الاستيلاء تلك..
بل والأغلب أنّ وزيرة العدل نفسها لا ناقة لها ولا جمل في ذلك.. وإنّما ستقوم بتنفيذ مشروع الرئيس سعيّد الجاهز في الموضوع.. والذي يتحيّن الفرصة منذ مدّة لطرحه وفرضه على الجميع.. وعلى القضاء والقضاة..
لذا فإنّه على القضاء وعلى القضاة التحسّب لنوايا قيس سعيّد مبكّرا وقد برزت جميع مؤشّراتها مسبقا وبوضوح صارخ..
وإنّه لا ينبغي حصول المصيبة لمحاولة مقاومتها..
وإنّما يقتضي الأمر توحيد الصفوف من جميع القضاة.. واستباق سير قيس سعيّد نحو الاستيلاء والسيطرة على السلطة القضائيّة.. وإرجاع القضاة لبيت الطاعة..!!
أي إرجاع القضاة لهيمنة الرئيس والحكومة كما كان عليه الأمر في عهدي بورقيبة وبن عليّ.. بتعلّة وتبرير تطهير وإصلاح وتنظيف القضاء من الفساد ومن الفاسدين..!!
يجب على القضاة الاستعداد لذلك مسبقا.. وعدم الاكتفاء بالبيانات الكلاميّة المندّدة.. وبدأ التنسيق لأعمال وقائيّة تضع رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد عند حدّه.. وترسل له إشارات قويّة وواضحة عن ردّ الفعل المنتظر من غالبيّة القضاة ومن السلطة القضائيّة وهياكلها.. والتي يمكنها فعلا أن تشلّ مبادرته في السطو على القضاء وتركيعه من جديد..
قضاء مستقلّ وفيه بعض الفساد.. هو أفضل ألف مرّة من قضاء تحت قدم السلطة التنفيذيّة وسيكون فيه مع ذلك كلّ الفساد..!!!
هل يعكس عزل قيس سعيّد لسفير تونس بواشنطن مشاكل مع الولايات المتحدة؟