أبو يعرب المرزوقي.. مفكر تونسي
أعلنت السلطة الرسمية في تونس أن نسبة البطالة بلغت 19 في المائة. وهو رقم مهول لا شك في ذلك. لكن الحقيقة هي أكثر من ضعف هذه النسبة، ذلك أن البطالة الخفية أكبر من البطالة العلنية.
كيف ذلك؟ ولماذا يعتبر ذلك من مقومات الدولة الاستبدادية؟ سؤالان من لا يطلب الجواب الصادق عنهما يتعامى عن علل التخلف الذي يرد إلى الاستبداد الذي يلغي شرطي النمو المادي والروحي للجماعات البشرية.
فأما الشرط الأول فهو الضامن لحقيقة معنى التعاون والتبادل، أعني حقيقة القيم المادية ورمزها العملة التي تترجم عن مكافأة الدور في الثروة الوطنية: سلامة العملة التي هي أداة التبادل.
وفسادها "ربا" مادي مقنع يدفعه الضعفاء للأقوياء في الجماعة وهو الاستغلال الاقتصادي وسياسة رتب التأجير وأسعار البضائع والخدمات بتوسط سوق التوظيف.
وأما الشرط الثاني فهو الضامن لحقيقة معنى التفاهم والتواصل أعني حقيقة المعاني الروحية ورمزها الكلمة التي تترجم عن مكافأة الدور في التراث الوطني: سلامة الكلمة التي هي أداة التواصل.
وفسادها "ربا" رمزي مقنع يدفعه الصادقون للمنافقين في الجماعة وهو الاستغلال الثقافي وسياسة منازل البشر وأسعار دور الجاهة في الربا المادي بسوط الوساطة والرشوة.
والجامع بين العاملين هو القوة اللطيفة وأداتها الإعلام أو الحكم الرمزي والقوة العنيفة وأداتها السياسة أو الحكم المادي: وتلكما هما سلاح الاستبداد.
والتربية هي سلاح الإعلام الخفي وسوق العمل هي سلاح السياسة الخفية. فالأول يحدد المنازل المعنوية فيرتب الناس بالرؤى الأيديولوجية، والثاني يحدد المنازل المادية فيرتب الناس بسلم الأجور والأسعار.
فلنطبق الآن هده الشبكة المفهومية التي تتعلق بأعماق الاستبداد وكيف يصبح علة للتخلف: فهو بهذين الأداتين يحول دون الفاعلية المادية والفاعلية الروحية في الجماعة فيجعل: الإبداع النظري وتطبيقاته في التعامل مع الطبيعة شرط التعمير وإنتاج الثروة.. والإبداع القيمي وتطبيقاته في التعامل مع التاريخ شرط الاستخلاف وإنتاج التراث..
أمران معكوسان: أي إن الجزاء في الحالتين لا يحدده دور الفاعلين الإبداعي فيهما بل دور التحيل الذي يجعل الحكم والجاه علتين للجزاء الأوفى، بحيث أن سلم المجتمع يصبح مقلوبا: كلما قل الجهد والإبداع ارتفعت المنزلة المادية والمعنوية.
والنتيجة أن كل الخدمات والبضائع تفسد لعدم الكفاءة والتكوين عند المسيطرين عليهما دون أهلية لأن التعيين في المسؤوليات والإشراف لا تخضع للشروط الضرورية والكافية بل هي تنتج عن الوساطة والجاه.
التربية هي سلاح الإعلام الخفي وسوق العمل هي سلاح السياسة الخفية. فالأول يحدد المنازل المعنوية فيرتب الناس بالرؤى الإيديولوجية، والثاني يحدد المنازل المادية فيرتب الناس بسلم الأجور والأسعار.
ومن ثم فإن كل عمل يصبح بحاجة إلى أضعاف ما يحتاج إليه من موظفين فتفسد كل المصالح ويتحول العمل إلى ملتقى الكسالى معرفيا وتقنيا وتصبح كل المؤسسات إقطاعيات لأصحاب النفوذ والجاه.
وبذلك فإن الجماعة تفقد القدرة على التعامل مع الطبيعة بالعلم وتطبيقاته إذ يعم الربا والجهل وتفقد القدرة على التعامل مع الإنسان بالقيم وتطبيقاتها، ويتم العمل بالنفاق والعنف: فتعم الخصاصة الغالبية والثروة القليلة يسيطر عليها أصحاب السلطة في المجالين المحرفين لدور العملة والكلمة: وتلك هي حال تونس الآن ومثلها كل بلاد العرب بما فيها تلك التي تبدو غنية لأنها تبيع ما لديها من: ثروة طبيعية ـ البترول مثلا ـ وتراث تاريخي ـ السياحة مثلا ـ أو التي تبيع الإنسان: وغالبا ما يكون دلك تجارة جنسية تابعة لسياحة الأولين في بلاد الثانين: وتلك هي علامات الاستبداد الذي تصبح فيه الدولة إقطاعيات تتقاسمها مافيات الأفعال ومافيات الأقوال السلطوية في الحالتين.
ويكفي أن أضرب أمثلة في وظائف القوامة العشر التي تتألف منها أي دولة صغرت أو كبرت قديمة أو حديثة:
ففي الرعاية بوظائفها الخمس تكوينا مضاعفا وتموينا مضاعفا وأصلا يكون عدد المكلفين بالمهام التربوية في المدرسة وفي المعمل أضعاف ما تحتاج إليه الجماعة، ويكون عدد المكلفين بالمهام التموينية المادية أي إنتاج الثروة وبالمهام التموينية الروحية أي إنتاج التراث أضعاف ما تحتاج إليه الجماعة.
ويكون الأصل أي البحث والإعلام العلمي التعلق بشروطها المعرفية والقيمية مثلها مضاعفا دون إبداع يعالج المجالات الأربع التي تتفرع عنه في الواجب.
والنتيجة هي أن الرعاية تصبح أشبه ببطالة خفية لا أحد فيها ينتج شيئا يذكر فتتراكم الثروة القليلة عند أصحاب النفوذ ويعم الفقر والعبودية لأن سد الحاجات الأولية هو المتحكم في حرية الإنسان وكرامته: كلما كان عاجزا دون سدها يصبح عبدا للتحكم في رزقه: وذلك هو جوهر العبودية.
وهنا يصيب الوهن وظائف الحماية الخمس في كل قوامة؛ أي إن الحماية الداخلية التي تتألف من القضاء والأمن: كلاهما يصبح أداة ابتزاز للمواطن في الحكم القضائي وفي تنفيذه فيصبح حاميها حراميها مع تضخم في الأنفار لأن كل ذي سلطان يستخدم أهله بفضل ما لديه من جاه.
والحماية الخارجية التي تتألف من الدبلوماسية والدفاع: كلاهما يصبح أداة ابتزاز للمواطن في السياسة الخارجية وفي تنفيدها فيصبح حامي البلاد حراميها مع نفس التضخم.
لكن هده المرة يكون الابتزاز دوليا بمعنى أن أدوات القوامة تصبح مخترقة من قبل أصل هده الحمايات، أعني الاستعلامات والإعلام السياسيين اللذين يفقدان دور حماية الجماعة ليصبحا أداتي جماعة خارجية، فتسيطر هذه الجماعة وذلك هو الاستعمار على مقدرات الجماعة المستضعفة بتمكين المافيات الداخلية من فضلات سد حاجاتها ثروات البلاد التي صار أهلها عبيدا بسبب ما وصفت.
لذلك فالكلام عن الحرية والكرامة من دون الكلام عن شروط التحرر من العلل التي وصفت والوصل بين ما تعلق منها بوظائف الرعاية ووظائف الحماية، أي بوظائف الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها من العلامات الدالة على مرض الأمة:
1 تحريف فلسفة الإسلام السياسية: كل الأحزاب الإسلامية حرفت هذه السياسة في قراءتها للقرآن والسنة وخاصة في فهمها لتاريخ الإسلام ورؤيته للتاريخ الإنساني من حيث هو استعمار في الأرض بقيم الاستخلاف.
2 ـ تبني سياسة الدولة الحاضنة التي تتحول بالضرورة إلى دولة العبودية، لأنها لا تسمح بالتخلص من ربا الأفعال الذي ينتج عن التسلط المافياوي ومن ربا الأقوال الذي يصحبه فيوظف الفكر والقيم للتخدير وليس للتنوير.
قراءة سيميائية في جريمة هزت المجتمع التونسي
بعد انقلاب تونس.. خمس حجج تجعل الديمقراطية غير ممكنة عربيا
"الإبراهيمية" دعوة دينية إنسانية أم تسويق مسيس للتطبيع؟