حظيت العلمانية باهتمام كبير في العالم الغربي خلال القرن الماضي مع تصالح الديمقراطية والليبرالية ثم تجذر العلاقة بينهما في وقت لاحق، وحدوث تمفصلات سياسية وقانونية واجتماعية باتجاه الفصل بين الدين والدولة مع تطور المجتمعات الغربية.
وزاد اهتمام المفكرين الغربيين بالكتابة حول العلمانية مع الثورة الجنسية في الغرب خلال ستينيات القرن المنصرم والصحوة الدينية في ثمانينياته، الأمر الذي أدى إلى نشوء قراءات تشكك في سردية العلمنة وانتصاراتها في الغرب.
ثم زادت الكتابات حول العلمانية وتوسعت خلال العشرين سنة الماضية مع تزايد الإسلاموفوبيا في أوروبا نتيجة التفجيرات الإرهابية، ونتيجة الجدل الثقافي الذي نشأ في فرنسا خصوصا مع أزمة الحجاب عام 2003، ونتيجة الجدل الحاد في إسبانيا وإيطاليا حول علاقة الأخلاق الكاثوليكية بقضايا تتعلق بأخلاقيات الممارسة الجنسية وحقوق الأزواج المثليين، وقضايا الإجهاض والمساعدة الطبية على الانتحار، فضلا عن الجدل المستمر والمنفتح في الولايات المتحدة حول الدين.
ما يزيد من أزمة العلمانية في العالم العربي أن الجمهور يتبنى في معظمه خطاب رجال الدين حول الموقف من العلمانية، في حين تميل الأقليات إلى الخلط بين العلمنة والدنيوة، الأمر الذي يجعلها تنظر إلى النظم العربية الاستبدادية على أنها نظم علمانية ضرورية لمواجهة المذهب السني الأكثري.
كما كان للتطور السياسي الذي أوصل حزب العدالة والتنمية في تركيا إلى السلطة، دورا في التخفيف من حدة العلمانية التركية الصلبة، في مقابل التطور المعاكس الذي حصل في الهند مع محاولة حزب الشعب دمج الهوية الوطنية بالتقاليد الهندوسية التاريخية وإقامة قومية متجانسة، كلها عوامل أخرى ساعدت في إعادة النظر إلى العلمانية مجددا.
قدمت كتابات ـ الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور والفرنسيين مارسيل غوشيه وجون بوبيرو وهنري بينا رويث، والأميركي من أصل إسباني خوسيه كازانوفا، ورونالد إنغلهارب وكريغ كالهون وأنطوني جيل وجون أندرسون وتشارلز هانسون وسكوت هيبارد وسيسيل لابورد وكاترين كنسلر، وعزمي بشارة وطلال أسد وصبا محمود والهنديان آمارتيا سن وأماراچيف بهارغافا.. إلخ ـ دورا مهما ليس في إعادة طرح العلمانية فحسب، بل في إعادة قراءتها من جديد، خصوصا كتابات تايلور الهامة جدا (منابع الذات، عصر علماني).
على المستوى العربي، طرح الربيع العربي مسألة العلمانية بعد غياب عميق لصالح الديمقراطية والمجتمع المدني، فقد طُرحت مسألة العلمانية في سياق التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية، وطرحت أسئلة، أهمها هل يمكن أن تنشأ ديمقراطية ـ ليبرالية في العالم العربي من دون أساس علماني؟ وهل العلمانية نصير للإلحاد؟ وهل توقيت طرح العلمانية توقيتا مناسبا الآن؟
شكلت سلسلة كتب عزمي بشارة "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" نقلة كبرى على صعيد عودة الاهتمام العربي بالعلمانية وبإعادة قراءتها وفق منظار مفاهيمي علمي وتاريخي، ولم تكن مصادفة أن تتكاثر الكتب المترجمة حول العلمانية إلى اللغة العربية بعيد كتاب بشارة الذي ألهم العديد إلى إعادة قراءة العلمنة والعلمانية.
وقد قامت دور نشر خلال السنوات القليلة الماضية بترجمة أهم الكتب حول العلمانية (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، دار جداول.. إلخ).
طرح الربيع العربي مسألة العلمانية بعد غياب عميق لصالح الديمقراطية والمجتمع المدني، فقد طُرحت مسألة العلمانية في سياق التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية، وطرحت أسئلة، أهمها هل يمكن أن تنشأ ديمقراطية ـ ليبرالية في العالم العربي من دون أساس علماني؟ وهل العلمانية نصير للإلحاد؟ وهل توقيت طرح العلمانية توقيتا مناسبا الآن؟
لا يُفهم من ذلك أنه لم تكن هناك كتابات عربية قبيل كتابات بشارة حول العلمانية، حيث عرفت المكتبة العربية كتابات لعبد الوهاب المسيري وعادل ضاهر وعزيز عظمة ومحمد أركون، وغيرهم، لكن هذه الكتابات اتسمت إما بأنها مندرجة ضمن نظرية للمعرفة (أركون، عظمة) أو مندرجة ضمن قراءة للعلمانية القائمة في الغرب (المسيري)، أو قراءة تاريخية قابلة للتعميم في كل المجتمعات (عظمة).
تكمن أهمية طرح بشارة للعلمانية، ليس في قراءة العلمانية والعلمنة ضمن سياقها التاريخي وضمن تجلياتها الواقعية الآن في المجتمعات الغربية فحسب، بل تكمن الأهمية الكبرى الثانية، في أنه صوب النقاش نحو ضرورة اعتبار العلمانية على أنها نظام سياسي مثل أي نظام سياسي آخر، كالنظام الديمقراطي ـ الليبرالي.
ولذلك، فإن العلمانية ليست بالتالي سوى نظاما تاريخيا خاضعا للتطورات والأخذ والرد والتعديلات الممكنة وفق البيئة الممكنة لها، وليست نظرية إبيستمولوجية منجزة.
وما زالت هذه النظرة الأخيرة للعلمانية باعتبارها نظرية في المعرفة وموقفا معرفيا من العالم، تهيمن على خطاب المفكرين الإسلاميين، ممن يعتبرون أن العلمانية مرادفة للإلحاد وأنها معادية للدين من حيث الجوهر.
وهذا الفهم الخاطئ للعلمانية، يوضح الإشكالية العربية الكامنة في أن فكر الحداثة لم يزل محصورا بين النخبة الفكرية العلمانية، ولم يحدث انفتاح وتلاقي بين هذه النخبة والنخبة الدينية في مسار وسط يوضح المفاهيم والمتطلبات التاريخية الضرورية.
وما يزيد من أزمة العلمانية في العالم العربي أن الجمهور يتبنى في معظمه خطاب رجال الدين حول الموقف من العلمانية، في حين تميل الأقليات إلى الخلط بين العلمنة والدنيوة، الأمر الذي يجعلها تنظر إلى النظم العربية الاستبدادية على أنها نظم علمانية ضرورية لمواجهة المذهب السني الأكثري.
*كاتب وإعلامي سوري
اتجاهات وآفاق العام 2022 للعالم العربي
فِي وَطَنِنا العَربِيِّ الكَبير..
مسار الثورة التونسية في ذكراها السنوية