مَثّلت حادثة الطفل المغربيّ الفقيد ريان واحدة من صور التكاتف المجتمعيّ والإنسانيّ؛ ليس على مستوى القطر المغربيّ الشقيق فحسب، بل على مستوى العالم.
لقد هزّت حادثة ريان، خلال أيّامها الخمسة القاسية، ضمير الإنسانيّة رغم أنّ جهود الإنقاذ لم تفلح في تخليص الضحيّة من بئره ونشر الفرحة في قلوب أهله والمتابعين لمأساته في أرجاء العالم!
وحادثة الطفل ريان أعادت للأذهان تلك الذكريات القاسية التي تابعنا بعضها عبر القنوات الفضائيّة ومواقع التواصل الاجتماعيّ وهي تقطر دما، وتفوح منها روائح الموت والحقد والانتقام، لآلاف الأطفال في العراق وغزّة وسوريّا واليمن وغيرها من الدول المنكوبة، وحكاياتهم لا تُمحى من الذاكرتين الإنسانيّة والتاريخيّة بسهولة!
لقد عانى أطفال العراق من سنوات لا يمكن وصفها بكلمات جامدات؛ لأنّها حوادث مُزجت فيها الصرخات والتوسّلات والمناشدات ببارود الأسلحة، وحديد الصواريخ، ورصاص البنادق وكانت النتيجة آلاف الأطفال الضحايا الذين لا ذنب لهم إلا أنّهم ولدوا في العراق!
ولا يمكن أن ننسى مذابح مدرسة بلاط الشهداء (13 تشرين الأول/ أكتوبر 1987) التي قتل فيها 34 طفلا، وملجأ العامريّة في بغداد (13 شباط/ فبراير 1991) مات فيها 400 ضحية، بينهم 52 طفلا، وغيرها من صور القتل غير المباشر لأطفال العراق الذين فقدوا حياتهم لنقص الغذاء والحليب الدواء في مرحلة الحصار الدوليّ الذي أعقب غزو الكويت!
وبعد الاحتلال الأمريكي رأينا مئات المناظر البشعة التي لا يمكن أن تُنسى بسهولة، ولا تُعقل حتّى لو أقسمنا أغلظ الأيْمَان على حدوثها لأنّها فوق الخيال، وخارج نطاق المعقول!
وقد سبق لصحيفة الغادريان البريطانيّة أن كشفت نهاية تشرين الأوّل/ أكتوبر 2014 عن وقوع 65 ألف تفجير خلال ستّ سنوات؛ حوّلت العراق لمقبرة، وقد قتل خلال الفترة 2004- 2009 أكثر من 109 آلاف شخص، وأصيب 176 ألفا و382 عراقيّا، أغلبهم من النساء والأطفال.
وذكرت منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة (يونسيف) في 22 حزيران/ يونيو 2017، أنّ أطفال العراق محاصرون في دوّامات العنف والفقر، وأنّ أكثر من خمسة ملايين طفل بحاجة إلى مساعدات إنسانيّة عاجلة، وقتل منذ العام 2014 (1,075) طفلا، وأصيب وتشوّه 1,130 طفلا، وانفصل أكثر من 4,650 طفلا عن ذويهم، وشُنّ 138 هجوما على مدارس الأطفال، وأنّ أكثر من ثلاثة ملايين طفل لا يرتادون المدارس بانتظام، بينما 1,2 مليون طفل هم خارج المدرسة، وهناك طفل واحد من بين كلّ أربعة أطفال يعيش في أسرة فقيرة!
ولم تتوقّف الكارثة عند هذا الحدّ، بل أعقبتها حوادث قتل شبه يوميّة جماعيّة. وقد ذكر تقرير رسميّ نهاية العام 2020، أنّه بعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام على نهاية المعارك مع تنظيم "داعش" في الموصل، تمّ انتشال 6150 جثّة معلومة و5000 جثّة غير معلومة، بينها جثث لأطفال، من تحت أنقاض المدينة!
وبموازاة هذه المآسي، أذهلتنا قصص الموت والبرد والجوع والحرق لأطفال هُجّروا من منازلهم الآمنة ليستوطنوا الخيام داخل العراق، وأصبحوا عرضة لكلّ صور الجور والظلم والمساومات!
وكشفت مفوّضيّة حقوق الإنسان المستقلّة نهاية العام 2021 عن وجود خمسة ملايين يتيم عراقيّ، بينهم مليون طفل انخرطوا في سوق العمل!
وفي بداية شباط/ فبراير 2022 أعلنت منظّمة يونيسيف أنّ 52 طفلا عراقيّا قتلوا، و73 أصيبوا بإعاقة جراء تعرّضهم لانفجار مخلّفات حربيّة خلال العام 2021.
وتداول ناشطون يوم الخميس (10 شباط/ فبراير 2022) شريطا مصوّرا لطفل عراقيّ ينام في الشارع، دون تحديد مكان الشريط!
وهكذا، فإنّ مسلسل الرعب والإهمال المركّب لأطفال العراق بحاجة لعشرات المجلّدات لتدوينه وتوثيقه وتسليط الضوء عليه.
ولم نلمس أمام هذه الحوادث القاسية القاتلة لعالم الطفولة، أيّ تحرّك رسميّ حقيقيّ لإنهاء هذه المأساة بل غالبيّة السياسيّين متناحرون على المكاسب والمناصب رغم استمرار الانغلاق السياسيّ، وانفراط عقد الاتّفاقات الهشّة، وبالذات بعد فشل جلسة انتخاب رئيس الجمهوريّة، وتنامي الاغتيالات والاتّهامات المتبادلة بين الفرقاء، وتصاعد المواجهات الانتقاميّة بين القوى "الشيعيّة" المسلّحة والمتصارعة على الحكم، التي ستبيد الأبرياء، وفي مقدّمتهم الأطفال!
فمتى يقدّم "إخوة السلاح" مصلحة الوطن على منافعهم الشخصيّة والحزبيّة؟
إن كانت حكاية طفل واحد في المغرب حَرّكت ضمائر الملايين، فكم ألف ريان عراقيّ قُتلوا بالقنابل والطائرات والسموم والسيّارات الملغّمة والاغتيالات الجماعيّة والترهيب والانتقام والكراهية؟ وكم ألف ريان نُحروا في آبار الفقر والحرمان والغربة والنسيان والإهمال؟