اعتادت قنوات وإعلاميون في مصر على إثارة قضايا تتعلق بالشأن الديني، منها ما يتعلق بثوابت، ومنها ما يتعلق بغير الثوابت، والجامع بين الأحاديث فيها: استضافة غير مختصين، ولا أهل علم مشهود لهم بذلك، سواء بشهادات علمية، أو بخبرة وعطاء علمي معروف، أو حديث بعض الإعلاميين الجهلة ممن لا صلة لهم بالعلم الشرعي، وخوضهم في قضايا تخجل المجامع العلمية من الخوض فيها دون تثبت، ودون بحث ومشاورة علمية طويلة ومتأنية.
وبعد حديث أحد الإعلاميين في قضية دينية؛ خرج علينا مجلس النواب المصري بمشروع قانون ينظم الحديث الديني، ومنوط به تنظيم الخطاب المتعلق بالدين في المساجد والمنابر، وما في حكمهما، وجرى تفسير ما في حكمهما بالفضائيات، والمواقع الإلكترونية، وغيرها، ولا يسمح لمن يتحدث على هذه المنابر إلا من يحصل على ترخيص يتيح له الحديث، واقترح مشروع القانون عقوبة لا تقل عن ستة أشهر، ولا تزيد عن سنة، وغرامة مالية لا تقل عن خمسين ألف، ولا تزيد عن مائة ألف جنيه مصري.
بالتأكيد نحن أمام موضوع مربك، من حيث اتخاذ موقف مع أو ضد مشروع هذا القانون، لأنه حق أريد به باطل، هذا من جهة، فلو كانت السلطة تريد تنظيم من يتحدث في الدين في المجال العام، من باب احترامها للتخصص، وفتح باب الحديث لأهله، وتمكينهم من حرية التعبير، فكان الأولى أن تسمح للأزهر ورموزه الحديث بالدفاع عن نفسه، حين تهجم عليه الفضائيات وإعلاميو النظام، ولا يتاح له حق الرد، وهو ما تكرر كثيرا.
بل إن الأزهر ممثلا في شيخه شكا أكثر من مرة من ذلك، وأنه لا يتاح له الرد والتوضيح، بل بلغ أن الأزهر في أمر جلل ومهم من قبل قام بإصدار بيان مهم، ولم ينشره موقع واحد في مصر، ولم تعلق عليه أي وسيلة إعلام فضائية أو صحفية، في تجاهل تام ينم عن موقف رسمي من النظام تجاه المؤسسة ومواقفها، ولم ينشره سوى موقع الأزهر الإلكتروني!
لسنا ضد إدارة الحديث في المجال العام، ولكنا لا نثق في أنظمة معرووفة بعدائها للفكر والرأي والحريات، إذا صدر من إحدى جهاتها قانون يدعي تنظيم ذلك، لعدة أسباب، أهمها: أن القوانين عند حسن صياغتها، فإن تطبيقها في مثل هذه الأنظمة يكون ضربا من المحال، بل من الخيال الذي لا مجال لتحققه.
كما أن من سيرفض إجراء سن قانون يمنع غير المختص من الحديث، سيكون باسم حرية التعبير، وحرية الحديث، وأن الإسلام ليس دينا كهنوتيا حتى يصادر على الناس حق الحديث عنه، وهو أيضا قول حق أريد به باطل، فلو كان من يرفعون هذا الشعار، وبخاصة ممن يحسبون على النظام المصري لو كانوا صادقين فيما يدعون، فإن هناك أصحاب أقلام كثر في مصر منعوا من الكتابة والتعبير عن آرائهم.
فهناك الأستاذ فهمي هويدي ممنوع من الكتابة، والأستاذ جمال الجمل أيضا ممنوع، وقد كان ذلك سببا في خروجه من مصر، ثم عودته، وفور عودته تم حبسه ستة أشهر، ثم خرج، وقد كتب منذ يومين على صفحته على الفيس بوك، أنه لا يكتب، ولا يستكتبه أحد، ولا تطلبه أي وسيلة إعلامية في مصر للحديث، ولا لإبداء رأيه. ومن قبل مُنع الأستاذ حمدي قنديل قبل وفاته بسنوات رحمه الله، بل طال المنع أصواتا عاونت هذا النظام على انقلابه، مثل: توفيق عكاشة، وغيره، فأين كان دعاة حرية الرأي والتعبير عندما منع هؤلاء جميعا.
بل إن هناك دور نشر في مصر ممنوع عليها نشر كتب لمؤلفين معروفين، أحياء وأموات، بسبب مواقف بعضهم من الانقلاب، من هذه الدور: دار الشروق، فهناك أسماء مؤلفين ممنوع عليها طباعة كتب جديدة لهم، أو بيع كتب طبعت من قبل لدى الدار، أو بيع ما في مخازنها من مؤلفاتهم، من هؤلاء المؤلفين: سيد قطب، محمد قطب، محمد عمارة، زينب الغزالي، يوسف القرضاوي، محمد الغزالي!
وفي معرض القاهرة الدولي للكتاب الأخير الذي كان منذ أيام، بعد أن تم السماح للشبكة العربية للأبحاث والدراسات بالمشاركة في المعرض، بعد نقاش وأخذ ورد، لم تشارك سوى يوم، ثم قيل لهم: احزموا حقائبكم، واجمعوا كتبكم، وعودوا من حيث أتيتم، ممنوع أن تشاركوا، ولم نر بيانا واحدا لأي مؤسسة حكومية أو غير حكومية تندد بهذا الفعل.
على أجهزة الدولة والمؤسسات الإعلامية التي تفتح الباب للمتحدثين بلا علم في الدين الإسلامي، نقدا وهجوما، وسوء أدب في التناول، ألا تنسى أن بابا كهذا لو فتح، وقام أحد المتحدثين بنقد الخطاب الديني المسيحي، ما الموقف لو اعترضت الكنيسة، وهاج الأقباط؟
بالطبع لسنا ضد إدارة الحديث في المجال العام، ولكنا لا نثق في أنظمة معرووفة بعدائها للفكر والرأي والحريات، إذا صدر من إحدى جهاتها قانون يدعي تنظيم ذلك، لعدة أسباب، أهمها: أن القوانين عند حسن صياغتها، فإن تطبيقها في مثل هذه الأنظمة يكون ضربا من المحال، بل من الخيال الذي لا مجال لتحققه.
كما أن من أهم أسباب التخوف من مثل هذا القانون، أنه نص على أن الحديث يكون للمختص المرخص له، وضع تحت كلمة المرخص له آلاف الخطوط، فالترخيص هنا لن يكون مصدره جهة علمية، بل سيكون أولا وأخيرا جهات أمنية فقط هي من لها حق إعطاء الترخيص، ففي مصر لا يمكن في المؤسسات الدينية تحديدا أن يوظف فيها شخص من عامل البوفيه إلى أكبر موظف في المؤسسة إلا بخطاب الأمن.
وهذا معناه: أن الأمر لن تحكمه معايير علمية ولا مهنية، ولا تخصص، بل سيحكمها معايير أمنية، يضعها ويطبقها الجهات الأمنية، فيكون مصير متخصص في يد مرشد أمني، أو أمين في الأمن الوطني، يرفع تقريرا عن الشخص، ويقرر الضابط المختص، ويقرر من يتحدث ومن عليه أن يصمت، ليس على المنابر فقط، بل على كل منبر مسجد أو إعلامي أو إلكتروني كما نص مشروع القانون.
على أجهزة الدولة والمؤسسات الإعلامية التي تفتح الباب للمتحدثين بلا علم في الدين الإسلامي، نقدا وهجوما، وسوء أدب في التناول، ألا تنسى أن بابا كهذا لو فتح، وقام أحد المتحدثين بنقد الخطاب الديني المسيحي، ما الموقف لو اعترضت الكنيسة، وهاج الأقباط؟ هل سيكون رد النظام وأجهزته، وجمعيات حقوق الإنسان: أنها حرية تعبير، أم سيعتبرونه تأجيجا للفتنة الطائفية، ويعاقب بمادة: ازدراء الأديان؟!
والأفضل في مثل هذه الأمور في ظل هذه الأنظمة: أن يُحكم بقوة المؤسسات المجتمعية، وميثاق شرف إعلامي، تحرص عليه وسائل الإعلام بألا تستضيف إلا المختص وتحترم بذلك عقلية المشاهد الذي يراها، وهذا ما تقوم به القنوات المحترمة، ويراقب ذلك أهل الاختصاص ومؤسسات المجتمع، وعلى المؤسسات الدينية أن تقوم بدورها كذلك في الأمر، بالتوضيح والبيان كلما خرج شاذ في الرأي أو الفكر، أو متطاول على ثابت من الثوابت، أو متكلم في الدين بجهل، فالقانون يكون آخر الإجراءات لا أولها.
Essamt74@hotmail.com
الفتوى المباشرة.. أهميتها وخطورتها
كنوزنا الدينية في الإذاعة المصرية