ذهب محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى موسكو عشية الغزو الروسي لأوكرانيا، متسلحا بصفتين: نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، وقائد قوات الدعم السريع، وهي جيش يدين بالولاء لحميدتي وأخيه عبد الرحيم وآل دقلو عموما، وعاد الرجل إلى السودان بعد قضاء زهاء أسبوع في موسكو، وعقد مؤتمرا صحفيا لم يقل في أي شيء عما أنجزه هناك، مما يرجح أن الزيارة لم تكن "رسمية"، أي لم يقم بها بصفته الدستورية، بل بوصفه قائد قوات الدعم السريع، ومالك شركة الجنيد العملاقة التي تعمل في مجالات تجارية واستثمارية تدار بسرية تامة، ولكن نشاطها في مجال الذهب مكشوف منذ الفترة التي كان فيها حميدتي المالك الوحيد لمناجم جبل عامر في دارفور، والتي استخرج منها أطنانا من الذهب كانت تجد طريقها الى الخارج.
جعلت مصادفات لم تكن في حسبانه حميدتي يصدق أنه يملك "خامة" رجل الدولة، فقائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، الذي ظل يناور ويداور عبر السنوات الثلاث الأخيرة ليصبح الحاكم المطلق في السودان، يدرك أن الجيش قد لا يسنده على طول الخط في طموحه السلطوي، فحرص من ثم على اصطحاب حميدتي إلى القصر، مراهنا على أن قوات الدعم السريع لا ولاء لها إلا لشخص حميدتي، وعليه فإن وجوده كرديف له في القصر صمام أمان ضد غدر أطراف عسكرية نظامية.
وهكذا وجد حميدتي غطاء دستوريا لتحركاته لتوسيع حاضنته الخارجية، وكان مدخله لذلك شركة فاغنر الروسية والتي تتستر وراءها روسيا الرسمية لاختراق الدول الهشة بجيش من المرتزقة، لمساندة طامحين في السلطة من بنِيها، ليصبحوا بيادق تحركهم موسكو، ومعلوم أن فاغنر تعمل على تدريب قوات الدعم السريع، وتفيد تسريبات تم تداولها خلال الأسابيع الثلاثة الماضية أن فاغنر تساعد البرهان وحميدتي إلكترونيا لاختراق مواقع المعارضة في الأنترنت لتعطيلها أو نشر أكاذيب من خلالها.
ثم كان ما كان من نشر صحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية تقريرا أعده توم كولينز، قال فيه إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حضّر للعقوبات الدولية التي توقع أن تحيق ببلاده عند غزوه أوكرانيا، بتخزين مئات الأطنان من الذهب الذي تم تهريبه من السودان، وأن قيمة سبائك الذهب لدى بنك روسيا المركزي تبلغ زهاء 630 مليار دولار، وبما أنه لا يوجد حرف واحد في أي سجل حكومي سوداني عن تصدير ذهب إلى روسيا، يصبح معلوما أن ذلك الذهب يخرج بعلم الحكومة أي أن الحكومة تتستر على تهريبه عن طريق طائرات صغيرة تنقل الذهب الخام من مناطق التعدين رأسا، عبر مطارات عسكرية على ذمة الصحيفة البريطانية، كما أن الروس يتخذون من شركة "أم ـ إنفيست" وذراعها في السودان تحمل إسم "ميروغولد" غطاء لأعمال مرتزقة فاغنر وتهريب الذهب السوداني.
فور عودته من موسكو، وكالمريب الذي يكاد يقول خذوني، قال حميدتي إنه لا يفهم لماذا هناك من يثير ضجة لاحتمال منح روسيا قاعدة عسكرية على شاطئ البحر الأحمر في شرق السودان، وهكذا ومن حيث لا يقصد كشف عن مقصد رئيس من وراء زيارته لروسيا
حميدتي دخيل على السياسة وشؤون الحكم والعمل العام عموما، ما عدا القتال، وهو المجال الذي فتح أمامه خزائن السودان، وجعل حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير توقف له مناطق بأكملها يمارس فيها التنقيب والتهريب بلا رقيب أو حسيب، ثم وصل البرهان إلى السلطة وترك الحبل على الغارب لحميدتي، فصار الأخير يتصرف ويتكلم في المنابر وكأنه الحاكم الفعلي للسودان، ولكن ما أن يفتح فاهُ حتى يفضح عِيَّه وزيف ادعاءاته، وافتقاره للحكمة.
فور عودته من موسكو، وكالمريب الذي يكاد يقول خذوني، قال حميدتي إنه لا يفهم لماذا هناك من يثير ضجة لاحتمال منح روسيا قاعدة عسكرية على شاطئ البحر الأحمر في شرق السودان، وهكذا ومن حيث لا يقصد كشف عن مقصد رئيس من وراء زيارته لروسيا: بحث أمر تلك القاعدة، وهو أمر يتحمس له البرهان ورهطه من عسكر السلطة الوالغين في أنشطة تجارية، ولأنه غير معني بأن مثل تلك القاعدة ستزج بالسودان في صراع القوى الكبرى فقد قال بكل سذاجة: ما فيها شيء.. كل البلدان الأفريقية فيها قواعد.. على كل حال هذا أمر يبت فيه وزير الدفاع (وهو عسكري اختاره البرهان للمنصب). وبهذا فإن حميدتي يقول أن أمرا يتعلق بسيادة بلده وعلاقاته الدولية متروك لشخص واحد.
عند تداول قضية غزو روسيا لأوكرانيا في الأمم المتحدة ثم في مجلس حقوق الإنسان، امتنع السودان عن التصويت، ربما لأنه أدلى بصوت جهوري سلفا عبر حنجرة حميدتي، الذي قال في موسكو كلاما ما معناه أنه من حق روسيا أن تقوم بذلك الغزو، ولأن العسكرتاريا السودانية ولجت في أمور الحكم دون دراية بتعقيداتها، فقد أصدر مجلس السيادة الذي يتولى رئاسته وإدارته البرهان بيانا جعله موضوع تندر في الأسافير، يدعو فيه روسيا وأوكرانيا لحل خلافاتهما عن طريق الحوار.
والسذاجة السياسية هي التي تجعل البرهان وصحبه يحسبون أنه طالما أغلقت دول الغرب ومؤسساتها المالية صنابير المنح والقروض للسودان، فإن وضع كل البيض في السلة الروسية، كفيل بجعل الروس يتولون أمور القروض والهبات، بينما الاقتصاد الروسي وحتى قبل حرب موسكو الأخيرة على أوكرانيا أضعف بنحو 25% من اقتصاد إيطاليا وكندا التي يبلغ عدد سكانهما معشار تعداد سكان روسيا، أما تقديرات الحرب الجارية الآن فقد كبدت روسيا خسائر بلغت 7 مليارات دولار في أيامها الأربعة الأولى، شاملة الخسائر في العتاد حسب تقديرات مركز التعافي الاقتصادي Center for Economic Recovery، وبعبارة أخرى فإن البرهان يريد رهن بلاده لروسيا دون أن يدري أنها "عبد المعين" الذي يبحث عمن يعينه كما يقول المثل الدارج.
عن الأخلاق الغربية في الحرب الأوكرانية!
الغزو الروسي لأوكرانيا.. التكاليف المترتبة على تركيا