اللغز الذي حار السودانيون في أمره وعجزوا عن سبر غوره، هو: لماذا محمد حمدان دقلو (حميدتي) هو الوحيد بين عسكر مجلس السيادة السوداني الذي يعتلي المنابر ويخوض ويفتي في مختلف الشؤون، ويضرب أكباد البوينغ لزيارة هذا البلد أو ذاك، رغم وجود أربعة عسكريين حقيقيين، وليسوا افتراضيين مثله، في المجلس؟ هل يرى عبد الفتاح البرهان رئيس ذلك المجلس السيادي أنه من الأسلم أن يرخي العنان لحميدتي حتى "يحرق" نفسه بنفسه؟ لأنه ـ أي حميدتي ـ ما أن ينطق ببضع كلمات حتى تتحول تلك الكلمات مادة للتندر، لأنها تفضح جهل الرجل ليس بالأحوال العامة بل حتى باللغة العامية.
الراجح عندي هو أن البرهان يريد حميدتي قريبا منه جدا لسببين: أولهما أن حميدتي قائد قوة عسكرية لا تعرف الكوابح والضوابط، ومن ثم يرى البرهان أن ترويض قائدها ووضعه في بؤرة الضوء قد يكبح جماحها بعض الشيء، وثانيهما أن البرهان يدرك أنه ومهما نافق عسكر الجيش النظامي وقدم نفسه أمامهم على أنه المدافع عنهم بإزاء حملات افتراضية تشنها عليهم قوى مدنية، فإن في الجيش قطعا عناصر كثيرة، لا ترى ما يراه البرهان من أمر مسائل الحكم في البلاد، وقد تنقلب عليه، كما انقلب هو على الرئيس السابق عمر البشير، ومن بعده عوض بن عوف الذي حاول الحلول محل البشير، ولم يطب له المقام هناك سوى لأربع وعشرين ساعة.
ويشكو حميدتي كثيرا من أنه موضع تندر واستخفاف في مواقع التواصل الاجتماعي والأنترنت، ولكن، ولأنه ضعيف أمام غواية المايكرفون والكاميرا، فإنه يزود منتقديه الكثر بذخائر يقصفونه بها كلما تكلم، ولعله يتأسَّى بالبرهان الذي شبه معارضيه بالكلاب قبل أسابيع قليلة، عندما خاطب حشدا عسكريا منددا بمنتقديه قائلا: الكلب ينبح والقافلة تسير، فحميدتي الذي كان حتى قبل أشهر قليلة حريصا على تقديم نفسه كمواطن بسيط قلبه على المواطن البسيط، ركبته في الفترة الأخيرة الخيلاء، وصار يتكلم وكأنه رئيس الدولة، وليس مجرد واحد من أحد عشر شخصا يمثلون رئاسة الدولة تحت مسمى مجلس السيادة.
ولا شك في أن زيارة حميدتي لروسيا مؤخرا عمَّقت لديه الإحساس بأنه شخص استثنائي، وأنه وعلى أقل تقدير يملك "خامة الرئاسة"، ففور عودته من موسكو عقد مؤتمرا صحفيا ـ كما يفعل الرؤساء الحقيقيون عقب لقاء نظرائهم من فئة "خمس نجوم"، ولم يفتح الله عليه بجملة واحدة تتعلق بأمر أنجزه هناك، بل سعى إلى تبرير منح روسيا قاعدة بحرية على البحر الأحمر في شرق السودان.
ثم واصل الظهور الإعلامي ووصف استمرار المواكب المطالبة بالحكم المدني الخالص بأنها "عبث"، وطالب في نفس الوقت أولئك العابثين بالجلوس والتفاوض مع العسكر، وتلك أول مرة يتواضع فيها، فقد كان قبلها يصف القوى المدنية بالفشل والتكالب على المناصب، ولكن تكرر في موكب تلو الموكب رفض أي وجود عسكري في السلطة السياسية والتنفيذية وحتى التشريفاتية، وربما رأى ضخامة تلك المواكب بالعين المجردة، فرأى أن يهادن قوى الحراك الشعبي على أمل أن تفاوضه هو والبرهان لتقاسم السلطة مجددا، وغفران قيامهما بانقلاب عسكري ضد الحكومة المدنية في 25 تشرين أول (أكتوبر) من العام الماضي.
حميدتي هو أحد كبار مهندسي اتفاق السلام المزعوم، والذي بموجبه جاء قادة حركات مسلحة من دارفور وجنوب منطقة النيل الأزرق إلى كراسي السلطة في الخرطوم، ثم تواطأوا مع انقلاب البرهان، فأثارت بنود ذلك الاتفاق حفيظة بعض أهل شرق السودان، وتمردوا على الحكومة في أواخر العام الماضي،
وفي ظل حكومة الانقلاب التي يقودها البرهان، تم تكليف حميدتي برئاسة اللجنة المناط بها حل المشكل الاقتصادي للسودان، فاعتلى الرجل المنبر مذكرا الشعب بأن "الأحوال صعبة"، ثم دعا الشعب إلى زيادة الإنتاج مذكرا إياه بأن "السماء لا تمطر ذهبا"، ونسب هذا القول إلى الحق عز وجل، رغم أن قائله عمر بن الخطاب ـ حاشاه ـ ورضي الله عنه لم يدع الألوهية، ثم أعلن القبض على أربعين حراميا يعملون في مجال تهريب الذهب وتجارة العملات، وما زال الناس يتساءلون: كيف ولماذا يغدر علي بابا بجماعته؟
وحميدتي هو أحد كبار مهندسي اتفاق السلام المزعوم، والذي بموجبه جاء قادة حركات مسلحة من دارفور وجنوب منطقة النيل الأزرق إلى كراسي السلطة في الخرطوم، ثم تواطأوا مع انقلاب البرهان، فأثارت بنود ذلك الاتفاق حفيظة بعض أهل شرق السودان، وتمردوا على الحكومة في أواخر العام الماضي، فأسند البرهان إليه مهمة ترويض وترضية "الشرقاويين"، فتفقت عبقرية حميدتي عن حل عجيب: رسم حدود داخل الإقليم على أساس قبلي، أي أن يكون لكل قبيلة منطقة معلومة لا يجوز لأبناء وبنات الأقاليم الأخرى الدخول فيها للرعي أو الزراعة أو قطع الأشجار أو الاستثمار، إلا بإذن خاص من القبيلة المعنية وربما "كفيل".
العجيب والغريب في أمر حميدتي هذا أن عدد مستشاريه ومعاونيه أكبر من عدد المستشارين الذين يعملون مع جميع أقطاب الحكم مجتمعين، ولكن لماذا يقوم الرجل من نقرة ليقع في دحديرة كما يقول المصريون عمن يتفادى خطأ بخطأ أكبر؟ والإجابة هي إما أنهم يفوقونه أو يساوونه جهلا أو أنهم يبذلونه النصح ولكنه لا يكترث له.
وما ليس بِعَصِيٍّ على الفهم من أمر "لغز حميدتي"، هو أن تشكيل ثم تقنين قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي، هي ثاني أكبر جريمة ارتكبها الرئيس المخلوع عمر البشير بحق السودان (الجريمة الأولى هي فصل جنوب السودان)، فهذه القوات التي تدين بالولاء فقط لآل دقلو (حميدتي وأقاربه)، والتي يتكئ عليها حميدتي لتحقيق طموحه المكشوف بأن يصبح حاكما للبلاد، ستظل خطرا على أمن الوطن والمواطن ما لم يتم حلها أو دمجها في الجيش النظامي، ولا يبدو أن البرهان ومعاونيه عازمون أو قادرون على ذلك.