لم تستطع الشقيقة تونس الخروج من أزمتها العامة منذ إصدار رئيسها المنتخب، استنادا على الفصل الثمانين (80) من الدستور، ما سمي "الإجراءات الاستثنائية" لإدارة البلاد والعمل على إعادتها إلى وضعها الطبيعي. ففي أعقاب تنظيم جلسة افتراضية، دعا إليها رئيس مجلس نواب الشعب "راشد الغنوشي"، أقدم رئيس الجمهورية "قيس سعيد" على حل البرلمان تأسيسا على الفصل التاسع والثمانين (89)، وتأويلا للفصل الثاني والسبعين (72). أما مصدر الانتقال من التعطيل إلى الحل من قبل مؤسسة الرئاسة، فيُفهم من تصريحات الرئيس وما ورد في نص الأمر الرئاسي رقم (117)، أن الخطر الداهم الذي ألمّ بتونس مازال مستمرا، وتنظيم جلسة افتراضية في ظل سريان "الإجراءات الاستثنائية" يؤكد أن المخاطر التي تلُفُ بعنق تونس واستقرارها محدقة بالبلاد، وأن من واجب رئيس الجمهورية، وفقا لما هو وارد من واجبات في الفصل 72، تسمح لرئيس الجمهورية بتفعيل الأحكام الواردة في الفصل 89، أي الانتقال من التعطيل إلى الحل. لذلك، يجد المتابع للشأن التونسي نفسه أمام أمرين بالغي الأهمية بالنسبة للأزمة التي دخلتها تونس منذ صيف 2021 .
يتعلق الأمر الأول بالإطار الدستوري لشرعية اللجوء إلى تقنية الحل dissolution، أي التوقيف النهائي لعمل البرلمان، و"جعله والعدم سواء" كما يُقال. في حين يخص الأمر الثاني "ما بعد حل مجلس نواب الشعب"، أي التداعيات الممكنة والمحتملة الناجمة عن هذا الإجراء الرئاسي.
هناك ثلاثة فصول دستورية اعتمد عليها رئيس الجمهورية المنتخب لتأطير اللجوء إلى تعطيل البرلمان ونزع الحصانة عن أعضائه أولا، ثم الإقدام على حلّه ثانيا، وهي تباعا الفصول 72 و80 و89 من دستور 27 كانون الثاني/ يناير 2014. فالفصل 72، يجعل من رئيس الجمهورية "رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور". ومن باب القانون الدستوري المقارن، تنص في مجمل دساتير العالم على نظير هذا الفصل والواجبات المتضمَّنة فيه، حيث تحمّل الوثائق الدستورية رؤساء الدولة، بغض النظر عن ألقابهم الرسمية، مسؤولية ضمان وحدة الدولة وصيانة استمرارها، والسهر على احترام الدستور والمؤسسات، علما أن ممارسة مثل الواجبات تتم في إطار الشرعية الدستورية والقانونية، أي بما لا يتعارض أو يتنافى مع روح الوثيقة الأسمى.
أما الفصل الثاني، فيتعلق بما ورد في الفصل الثمانين (80)، أي الأحكام التي أسس عليها رئيس الجمهورية لجوءه إلى الإجراءات الاستثنائية في 25 تموز/ يوليو 2021، والحال أن هذا الفصل بالذات، وبالطريقة التي فهم بها رئيس الجمهورية أحكامه، أثارت حينئذ جدلا دستوريا كبيرا، وتوزعت ردود الفعل إزاءها بين مؤيد ومعترض من قبل التونسيين ونخبهم السياسية والحقوقية، وغيرهم من المتابعين من داخل البلاد العربية والعالم.
لا تقنعنا المسوغات الرئاسية المعتمد عليها في تبرير حل مجلس نواب الشعب، ولو كانت المحكمة الدستورية موجودة، وهي المؤهلة أكثر من غيرها لتأميل أحكام الدستور، وامتلكت استقلالية الصدع برأيها لكان الأمر مخالفا ومختلفا عما ورد في الأوامر الرئاسية، لاسيما رقم 117 و109.
نُذكر أن مقتضيات الفصل الثمانين لا تشير صراحة إلى تعطيل البرلمان ونزع الحصانة عن أعضائه، كما تقتضي رأي المحكمة الدستورية غير المحدثة والمنصبة في تونس، ثم تقضي بالآجال الواجب استمرارها قبل اللجوء إلى الحالة العادية، أي الطبيعية، والتي تقضي من رئيس الجمهورية اتخاذ ما يسمح برفع حالة الاستثناء والعودة إلى الشرعية الدستورية واشتغال المؤسسات. أما الفصل 89، الذي لجأت إليه مؤسسة الرئاسة للإعلان عن حل البرلمان، فأحكامه واضحة، والشروط السليمة لتطبيقه مترابطة ومتكاملة فيما بينها. فالفصل ورد في القسم الثاني من الدستور في باب "الحكومة" وهو من أكبر الفصول، حيث تضمن سبع فقرات، نظمت في مجملها "تكوين الحكومة، وسلطة الرئيس في تكليف من يترأسها، والآجال الواجب احترامه للقيام بهذا الإجراء، وتنصيبها من قبل البرلمان، والحلول التي يحق للرئيس الإقدام عليها في حال عدم تمتع الحكومة بالقبول والموافقة، وفي حال مرور أربعة أشهر على التكليف الرئاسي الأول لرئيس الحكومة ولم تتمكن هذه الأخيرة من حيازة ثقة البرلمان، يمكن لرئيس الجمهورية "حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة في أجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما".
لذلك، واستنادا على أحكام الفصل 89، نظم الدستور آلية حل البرلمان في سياق واضح ومحدد، وهو ما بعد إجراء الانتخابات، وإجراءات تنصيب الحكومة، وليس في سياق مغاير. والحقيقة أن مؤسسة الرئاسة في تونس، لجأت مرة أخرى إلى تأويل للفصلين 72 و89، للانتقال من حالة تعطيل البرلمان إلى حله جملة وتفصيلا.. هل توفق التأويل الرئاسي في ما لجأ إليه؟ وهل تُسند الشرعية الدستورية قراءة الرئيس للفصلين المشار إليهما؟.
حل مجلس نواب الشعب حلقة في سيرورة تطور الأزمة السياسية في تونس بين مؤسسة الرئاسة ومن يدعمها ويناصر إستراتيجيتها من جهة، وحركة النهضة وبعض أتنظيمات المتوافقة معها حول ما يجري في تونس،
لا تقنعنا المسوغات الرئاسية المعتمد عليها في تبرير حل مجلس نواب الشعب، ولو كانت المحكمة الدستورية موجودة، وهي المؤهلة أكثر من غيرها لتأميل أحكام الدستور، وامتلكت استقلالية الصدع برأيها لكان الأمر مخالفا ومختلفا عما ورد في الأوامر الرئاسية، لاسيما رقم 117 و109.
نخلص إلى أن حل مجلس نواب الشعب حلقة في سيرورة تطور الأزمة السياسية في تونس بين مؤسسة الرئاسة ومن يدعمها ويناصر إستراتيجيتها من جهة، وحركة النهضة وبعض أتنظيمات المتوافقة معها حول ما يجري في تونس، ومن الواضح أنها أزمة وإن بدت من طبيعة دستورية وقانونية فإنها سياسية في عمقها. أما حلها فلا يتوقف على الدستور والقانون على أهميتهما البالغة، بل يرتبط بالسياسة، بوصفها "فن تدبير الممكن"، والتوفيق الخلاق والعقلاني بين المصالح.. أما الطريق إلى ذلك فهو الحوار ثم الحوار بين الأطراف المتنازعة.. والسياسة ميدان للتنازع بامتياز.
حل البرلمان التونسي.. خطوة نحو حل الأزمة أم نحو تعقيدها؟
تحولات جديدة في المشهد التونسي
هل يعيد رمضان تشكيل المشهد الجيوسياسي في الإقليم؟